تكمن ثروة الشعوب الحقيقية في الجيل الصاعد من أبنائها، في أولى مراحل أعمارهم الغضة، أو ما يسمى بمرحلة الطفولة، وكيفما تعتني بهم، بما من شأنه توفير جميع المستلزمات لبناء عقولهم وتنميتها، ستحصل مقابل ذلك على جيل قادر على بناء مجتمع متقدم حر وسليم. فكيف هو واقع الطفولة في العراق، وكيف يتعامل مجتمعنا مع أبنائه في سنين حياتهم الأولى، هذا ما سنحاول أن نلقي الضوء عليه لما لهذا الموضوع من أهمية عظيمة على مجتمعنا في حاضره ومستقبله.
إن مشكلة الطفولة في العراق قديمة، لأن النظرة إلى الطفل تتسم بأنه غير واع ومدرك لما حوله، وإدراكه يبدأ عند البلوغ، لذا فهو يتعرض إلى انتهاكات أخلاقية متعددة ومختلفة. ويساعد على ذلك عدم وعي الآباء والأمهات، بأهمية الطفولة في المجتمع وتأثيرها المستقبلي، وكثير من العوائل تترك الطفل للزمن، فهو كفيل بوجوده وديمومته وتوجيهه. وفي وقتٍ متأخر بدأ الاهتمام بالطفولة، لكنه تزامن مع الحروب والحصار الاقتصادي الذي شهده العراق قبل 2003، ثم العنف الطائفي الذي عصف بالعراق دون رحمة في الأعوام التي تلت التغيير، مما جعل الفرد العراقي، يكون ضحية الحرب والإرهاب، ودفع الطفل ثمناً غالياً في هذه الظروف. ويتعرض الأطفال خلال التفجيرات بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة إلى القتل أو بتر أعضاء من أجسادهم وهذا يجعلهم غير قادرين على ممارسة حياتهم، أو فقدان إحدى حواسهم كالسمع والبصر.
وبسب الظروف الاقتصادية التي تعيشها العوائل العراقية ينخرط الأطفال بالعمل مبكراً، ويشكل العمل المرهق نوعاً آخر من العنف الجسدي، فكثير ما يطلب من الطفل أن يقوم بأعمال تفوق قدراته الجسدية، أو العمل تحت أشعة الشمس الحارقة وقضاء ساعات طويلة في العمل، مما يسبب له التعب والإرهاق، وقد يتعرض الطفل للشتم والإهانة والإذلال، كذلك يتعرض الطفل إلى العنف النفسي، بحرمانه من كل وسائل الترفيه، ليكتفي بالجلوس لساعات طوال أمام التلفزيون ليشاهد وقائع الحرب المرعبة، ويقدر له أن يشاهد بأم عينيه الانفجارات والجثث، مما جعل الطفل لا يميل إلى الألعاب السلمية، وإنما يفضل أن يلعب أدوار العنف أو يرسم صوراً تمثل الحرب والدمار والقتل، بعد أن كان يرسم شجرة وعصفوراً ونخلة.
وبذلك بات الطفل العراقي، ضحية المجتمع الذي يتجاهل حقوقه، ويدافع عنها، ففي إحصائية
لمنظمة اليونيسيف قدرت في عام 2008 نسبة العمالة بين الأطفال إلى 11% من الأيدي العاملة". وهذه النسبة زادت بسبب الظروف الاقتصادية التي مرت على الشعب العراقي بعد ذلك التاريخ وظروف الحرب الطائفية والعنف. إن الأعمال الشاقة التي يقوم بها الأطفال قد تسبب لهم العوق بسبب التعامل مع الآلات الحادة الجارحة وظروف العمل التي لا تناسب هذه الشريحة.
وتشير إحصاءات وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، إلى أن عدد الأطفال الأيتام في العراق بلغ نحو أربعة ملايين ونصف المليون طفل بينهم 500 ألف طفل مشرد في الشوارع.
كما تستغل الميليشيات الأطفال وتسخرهم لأعمالها العدوانية كالقتل وزرع العبوات الناسفة وتفخيخ السيارات، ونشر النعرات الطائفية، لتترك تأثيراً سلبياً على نفوسهم الغضة الطرية ويصابون بأمراض نفسية، نتيجة الخوف والرعب الذي يتعرضون له، وفي دراسة لمنظمة الصحة العالمية عام 2006 لشريحة من 1090 طفلاً أكدت أن 30% من الأطفال يعانون اضطرابات نفسية و 47% يعانون كوابيس واكتئاباً وقلقاً، نتيجة صدمة كبيرة، كما أن حرمانهم من الدراسة ومن ذويهم وأصدقائهم، يجعلهم يعيشون في إحباط شديد، وهؤلاء الأطفال يفتقدون الرعاية للتغلب على الصدمة التي تصيبهم جراء فقدانهم أهاليهم وجيرانهم وبيوتهم.
الطفولة في العراق تعاني أمراضاً كثيرة، لابد من إيجاد العلاج الناجع لها، قبل فوات الأوان، من اليتم وفقدان الحنان الأبوي، والرعاية الأمومية، ومن شح في القدرات، على تلبية الحاجات الأساسية، ومن حرمان شبه كامل، من الأصدقاء ومن الهوايات، ومن تدهور الصحة النفسية، والجسدية نظراً لمعاناة طويلة، وحرمان من مصادر الدخل والأمان النفسي.
فماذا يمكننا أن نفعل لإيقاف ذلك التدهور، الذي يعيشه مجتمعنا، وينعكس بالدرجة الأولى على الحياة الآمنة لأطفالنا؟ وكيف يمكننا إنقاذ مجتمعنا، مما يراد له، من يتم وتدهور، وحرمان من الحب والحنان والأمان، أليس من واجبنا أن نفكر، بإنقاذ طفولتنا البائسة، من واقع شديد التعاسة ؟ ونفكر أن نصنع المستقبل، عله يكون أكثر إشراقا، من ماض تعيس مظلم .
على مفكرينا وكتابنا، أن يجدوا الطرق في إنقاذ طفولتنا، من سياسة التنكيل والحرمان، وأن يعيدوا لأطفال العراق حياتهم الآمنة، وأسرهم المتعاونة المتآلفة، التي توفر كل حاجات الإنسان السوي، من حب وحنان، وتعليم اقتصاد وترفيه، ومن تعزيز الثقة بالنفس، التي سلبت، ومن نظرة مطمئنة إلى المستقبل، الذي يجب أن يكون أكثر إشراقا، من الحاضر التعس، والأمس المظلم، لنفكر في إيجاد الطرق الناجعة، التي تعيد الحياة لأطفال العراق اجتماعيا، وسياسيا واقتصاديا، وثقافيا ونفسيا، وكل من هذه الميادين، تتطلب تضافر الجهود وإمعان الفكر، والرغبة الجادة.
تعتني الأسرة بحياة الطفل، وتوفر له ما يحتاج له من أساسيات، وتغرس فيه حب النفس، واحترامها وتقدير الآخرين، وحب التعلم والوطن والرغبة في العمل والإحسان فيه، وأن يدرب منذ الصغر على احترام الرأي الآخر، ليس نظريا فحسب، وإنما عمليا أيضا، بأن يجد نفسه في بيئة تحترم اختلاف الآراء، وأن نعود إلى ماضي تعليمنا العراقي، حين كانت هناك مكتبات عامة، في كل مدرسة، وكل منطقة سكنية، وإن كان هذا الأمر مقصورا على العاصمة بغداد، فإنه يجب أن يعمم، على كل العراق، لتكون الثقافة عامل بناء، ويتعلم الطفل العراقي كيف يقرأ الكتاب، ويطّلع على كل ما هو جديد، في حدود عمره، وإمكاناته العقلية، وأن تحترم المدارس عقلية الطفل ومداركه، وأن تخلو الكتب المدرسية، من أفكار التعصب والتطرف والتشجيع على العداء للرأي الآخر، وتغليب القوة الجسدية، على القوى الروحية والعقلية والنفسية، كما يجب الاهتمام بالأنشطة اللاصفية، وأن يقبل عليها الطفل طواعية، دون فرض أو إكراه، وعلى المربين أن يشجعوا الإبداع بكل ألوانه، الأدب : شعرا ونثرا ،والفن، رسما وموسيقى ومسرحاً، الذي يجب أن يأخذ العناية الواجبة، من المسؤولين عن تربية الطفل ،والقائمين عليها في العراق، وأن تخصص المبالغ المناسبة، لتشجيع القدرات الإبداعية ونشر الجيد منها، وإعفاء الأطفال من التكاليف المالية، كما يجب الاهتمام بغرس المبادئ الجميلة التي تحترم الحياة وتدعو إلى النضال، من أجل تحسين ظروفها، وأن نبتعد قدر الإمكان عن ثقافة الموت والدمار أو تشجيع سياسة العنف وإلغاء الآخرمادياً ومعنوياً، وقد ننجح ،ولكن ليس من المحاولة الأولى بأن نساهم قليلاً في إنقاذ الطفولة العراقية.
مستقبل الطفولة فـي العراق
[post-views]
نشر في: 23 أكتوبر, 2012: 05:27 م