بعد بضعة أسابيع من عملي في شركة النبيذ فُصِلْتُ من العمل أيضاً ، و تسلّمْتُ في ذات الوقتِ تقريباً رسالةً من بيتي تُعلمُني فيها عن نيّتِها إقامة دعوىً عليّ للمطالبة بالنّفقة القانونيّة و كان ردّ فعلي الاوّليُّ هو التّفكيرُ بالعودة إلى فرنسا أو مُحاولة
بعد بضعة أسابيع من عملي في شركة النبيذ فُصِلْتُ من العمل أيضاً ، و تسلّمْتُ في ذات الوقتِ تقريباً رسالةً من بيتي تُعلمُني فيها عن نيّتِها إقامة دعوىً عليّ للمطالبة بالنّفقة القانونيّة و كان ردّ فعلي الاوّليُّ هو التّفكيرُ بالعودة إلى فرنسا أو مُحاولة المغادرة بعيداً إلى مدينةٍ غير معروفة ، و لكن لحسْن الحظّ أقنعْتُها بقبول مبلغٍ أسبوعيّ ضئيل لقاء تنازلِها عن الدّعوى ، و كانت لي مشاكلُ إضافيّة مع مالِكة الغرفة الّتي أسكن فيها - و إنْ بدت مشاكل صغيرة - : فقد كانت المالكة تعيشُ على مبلغ الإعانة الوطنيّة و كانت لها ابنةٌ قبيحة في منتصف الثلاثينات من عمرها بالإضافة إلى حفيدة بدينة ، و سرعان ما اتخذتْني الإبنة القبيحة صديقاً مقرّباً لها و أسَرّتْني أنّها بعْدما انفصلتْ عن زوْجها راحت تدعمُ مدخولها من الإعانة الوطنيّة بقليلٍ من المال الّذي تكسبُهُ عن طريق البغاء ، و لم تكن هذه المسألة مصدراً لِضجري أبداً إلّا عندَما بدأتُ ألاحظُ علاماتٍ مُؤكّدة في غرفتي تفيدُ بأنّ الابنة استخْدمتْها لمضاجعة زبائنها من الرّجال ، أمّا الحفيدة البدينةُ فقد اعتادت أكل شطائر السّمك المقليّ في سريري و كان عليّ دوماً ترتيبُ السّرير و تنظيفه من بقايا الطّعام ، و نشبتْ مشاجرةٌ بيني و بين جوي أآنذاك لانّها رفضت زيارتي في شقّتي و بلغ الغضبُ بي مبلغاً قرّرْتُ معه ألّا أراها ثانيةً ، و لكنّنا كنا اعتدْنا رؤية بعضنا - و ذاك هو الأساس في كلّ الزّيجات النّاجحة - ، لذا ذهبْتُ بعد يوميْن لرؤيتها حيثُ تعملُ في شارع أكسفورد ، و لمّا كنتُ قد غيّرْتُ سكني القديم فأقنعْتُها أنّ وعدها لوالدِها بعدم زيارتي لم يكن ينطبقُ على سكني الجّديد . و عندها اقتنعتْ جوي و بدأت بتمضِية بعض الأمسيات - و أحياناً بعض الليالي - معي ، و عندما لمحتْها مالكة السّكن العجوز تتسلّل خارجاً في إحدى المرّات وبّختني و قالت إنّ هذا سلوكٌ لا يليقُ بساكنٍ عندها و بدت لي ملاحظتُها هذه كنوْعٍ من سخريّةٍ سخيفة ، و لمّا لم يكن في نيّتي إعلامُها بما تفعلهُ إبنتُها من ورائها فقد قرّرْتُ مغادرة السّكن و البحث عن سكنٍ جديد .
عثرْتُ على عملٍ جديدٍ في مصنعٍ للمواد البلاستيكيّة في ويتستون Whetstone و كان العملُ فيه أقلّ ضجراً لي من عملي في الأعمال المكتبيّة ، و لكنّني تشاجرْتُ مع رئيسي في العمل بعد بضعةِ أسابيع من بدئي للعمل و طُلِبَ إليّ بعدها جمعُ أوراقي و تركُ العمل في المصنع ، و بدأتُ حينذاك أشعرُ بالضّبط كما شعر راسكولنيكوف قبل ارتكابه جريمة القتل في رواية ( الجّريمة و العقاب ) عندما اجتاحهُ إحساسٌ طاغٍ بأنّ " من غير الممكن المُضيّ بحياته على هذه الشّاكلة " ، و كان الغثيانُ قد بلغ معي آنذاك حدّاً لايُطاق بسبب اضطراري للتعامل مع الأغبياء و العمل في أعمالٍ لا أطيقُها من دون الحصول على ما يكفي من الوقت للعمل على روايتي ( طقوسٌ في الظّلام ) بعد أن بقيْتُ أكافِحُ في كتابتها منذُ أنْ كنتُ في السّابعة عشرة و كان كلُّ ما أحتاجهُ هو شهرٌ من العمل المُنضبط لتحويل الشّذرات التي تجمّعت لديّ إلى رواية كاملة . و مع أنّ بعض فُصولِها بدتْ لي جيّدة غير أنّها لن تكون روايةً حقيقيّة ما لمْ أبدأ من البداية و أمضي في العمل عليْها حتّى النهاية . قرأتُ في تلك الفترة أيضاً أعمال غراهام غرين الخفيفة بنفاد صبْرٍ عظيم و بدا لي واضحاً أنّني كنتُ أكتبُ افضل بكثيرٍ من تلك الأعمال ، فلِمَ كان عليَّ إذن أن أظلَّ أعملُ في أعمالٍ لا طائل من ورائها ؟ بدا لي أنّ الأوان قد حان لأكون كاتِباً ، و أدركْتُ في غمْرة إحباطي الكامل أنّ جانباً كبيراً من مشكلتي الآنيّة حينذاك تمثّل في اضطراري لدفع إيجار سكني الّذي كان معقولاً بالمعايير العاديّة و لكنّ الإيجار مع الوقود و التأمين و ضريبة الدّخل كانت بقدر ثلاثة أضعافِ ما أصرفهُ لتأمين متطلّبات طعامي ، و في ذلك الوقت كان جوني أبراهام Johnny Abraham - و هو صديق سمح لنا من قبلُ بعرض استعراض القرن العشرين في غرفة سكنه - يعتزِمُ القيام بجولةٍ في الشّرق الأوسط ليتجوّل هناك لمدّة تقربُ من العام و لكي يرى العالم ببساطة ، و كان قد ابتاع خيمةً و حقيبة للنوم مانعة لتسرّب المياه ، و هنا طرأت على ذهني فكرة : ربّما كان هذا هو الحلّ الأمثلُ لمشكلتي مع السّكن ، فأنت متى ما دفعْتَ ثمن خيمةٍ ما فهي ستكونُ ملكاً لك إلى الأبد و يكون في مقدورك نصبُها في أيّة فسحةٍ مُتاحة من أيّ حقل ، و كنتُ آنذاك أقيمُ قريباً من ضواحي لندن الغربيّة و على مبعدة نصف ساعةٍ بالسّيّارة شماليّ بارنيت . وضعْتُ الخطّة هذه موضع التنفيذ على الفور و اشتريْتُ خيمة رخيصة الثّمن و حقيبةً للنوم و زارَني في عطلة نهاية الأسبوع صديقي باري هيبويل Barry Hipwell : الشّاعر الليستريّ الّذي شارك في التمثيل بمسرحيّة ( الإنسان و الإنسان الخارق ) عندما عُرضت في محلّ لويس و أخبرَني أنّه قرّر الانتقال إلى لندن و كان يبحثُ عن سكنٍ مناسب فأخبرته أنّ في وسعه أن يأخذ سكني ، و نقلْتُ كتبي إلى مسكن جوي في تشوك فارم ، و في أسبوع عملي الأخير في مصنع البلاستيك كنتُ أنام في الخلاء تحت خيمتي !! و كنتُ في أيّامي الأولى أنامُ في حافّة ملعب غولف قريب من المصنع و سرعان ما ادركْتُ أنّ الخيمة كانت تزيدُ عن حاجتي و تسبّبُ لي الكثير من المتاعب في نصبها و إزالتها كما كانت تجتذبُ أنظار الآخرين و اكتفيْتُ بحقيبة النّوم إذ كان بإمكاني إدخالُ رأسي داخلها عند هطول المطر ، و كان هذا يعني حتماً عَجزي عن إرسال النّقود المطلوبة إلى بيتي ، و لكنّها كانت حصلت على عملٍ قريباً من ليستر و هكذا لم يكن عجزي عن الإيفاء بمُتطلّباتِ نفقتها القانونيّة ذا نتائج خطيرة .
كنتُ أتوقّعُ أن أحصل على ما يُقارِبُ العشرين جنيْهاً لدى مُغادرتي مصنع البلاستيك ، و كان هذا المبلغُ كافياً للإيفاء بمعيشتي فيما لو انفقتُهُ على شراء الطّعام فحسْبُ و قاومْتُ إغراء شراء الكتب ، و مضيْتُ في النوم بمنطقة هامبستد هيث قريباً من سكن جوي و من المتحف البريطانيّ في الوقت ذاته ، و علمْتُ بوجود مقهىً لسائقي الحافلات يقعُ قبالة محطّة تشوك فارم لقطارِ الأنفاق حيث اعتدْتُ الحصول على قدحٍ من الشّاي و شريحتيْن من الخبز و بعض المرق لقاء بضع بنسات ، و كنتُ أذهبُ إلى المقهى كلّ صباحٍ لتناول طعام الإفطار ثمّ أركبُ درّاجتي باتّجاه المتحف البريطانيّ و هناك بدأتُ بكلّ جدّية في إعادة كتابة روايتي ( طقوسٌ في الظّلام ) . أثبت النظّام الجديد لحياتي أنّه كان أفضل لي بكثيرٍ من العمل في مكتبٍ أو مصنعٍ مع أنّه لم يكن مثاليّاً بأيّ شكلٍ من الأشكال لانّني كنتُ في حالةٍ إجهادٍ عقليّة ثقيلة الوطأة نتيجة متاعب السنتيْن الماضيتيْن و ما كابدْته خلالهما ، و لم تنجح أثناءها مُحاولاتي للعيش كصعلوكٍ متشرّد في لندن في تخفيف آثار تلك التوتّرات القاسية عليّ ، و عندما أخبرْتُ صديقي بيل هوبكينز أنّني أنامُ داخل حقيبة نومٍ في متنزّهٍ عام و أنغمسُ بالكتابة في قاعة المتحف البريطانيّ أثناء النّهار قال لي بحماسةٍ مفرطة " تلك هي الفكرة العظيمة ، كول : هيّا امضِ و إصنع أسطورة ويلسون " و لكن كان من الواضح أنّني لا أستطيعُ العيشَ على مَحْض أساطير .
قابلْتُ أحد الأيّام في قاعة المُطالعة بالمتحف البريطانيّ واحدة من الشخصيّات الكثيرة المثيرة للاهتمام الّتي قابلْتُها في حياتي : كنتُ أقرأُ في مؤلّف بريتول Britall المُعنون ( أنثولوجيا كيركيغارد Kierkegaard”s Anthology ) و عندما مضيْتُ خارج قاعة المُطالعة بِالمتحف وقت الاستراحة لتناول شطيرةٍ اقترب منّي رجلٌ شابٌّ و قال " رأيتُكَ تقرأ كيركيغارد و كنتُ أنا أقرأ هايدغر " و انغمسْنا في مناقشاتٍ مستفيضة و عرفْتُ منه أنّه كنديٌّ يُدعى ( آلان ديتوايلر ) و أنّه يدرِّسُ الموسيقى و بخاصّة أعمال المؤلّف الموسيقيّ السويديّ بيروالد Berwald ، و عندما عرّجْنا في حديثِنا بمحض المُصادفة إلى ذكر خطاباتي في جمهور الفوضويّين في زاوية الهايدبارك اقترح عليّ أنّ من المناسب مقابلة صديقٍ له ، و هكذا وجدْتُني بعد أيّامٍ قليلة أغذُّ خطاي نحو جادّة وارويك Warwick Avenue لمقابلة شخصٍ في منتصف العمر يتكلّمُ بلهجةٍ أوربّية متكسّرة و ترتسِمُ على وجهه ابتسامةٌ ودودة : كان الرّجل يدعى ( ألفريد رينولدزAlfred Reynolds ) و كان يقطنُ غرفةً محشورةً بالكتب و اسطوانات الغراموفون . كان ألفريد يهوديّاً هنغاريّاً أجْبِرَ مع نهاية الثلاثينات ( من القرن العشرين ) على مغادرة ألمانيا بتأثير القمع النازيّ و غيّر اسمه من ( راينهارت ) إلى ( رينولدز ) و عمل ضابط إستخباراتٍ في الجيش البريطانيّ ، ومع نهاية الحرب العالميّة الثّانية عُهِدَ إليه بوظيفةٍ شاقّة تتمثّلُ في نزع المبادئ النازيّة من عقول الشّبيبة النازيّة ، و حكى لي الرّجلُ كيف راح الشّبيبة الغاضبون في أوّل لقاءٍ له معهم يتطلّعون إليْه بغضبٍ و ينتظرون أن يتفوّه بعبارةٍ مثل " كان هتلر وحشاً " أو " النّازيّة شرّيرة " و لكنّهُ - وَعلى العكْس ممّا توقّعوه - تصرّفَ بكلّ هدوء و جلسَ على الكرسيّ في القاعة و طلبَ إليهم أن يحكوا لهُ عن سبب إنضمامهم إلى منظّمات الشّبيبة الهتلريّة و استمعَ إليْهم بكلّ تعاطفٍ و تفهّم و راح يطبّقُ الطريقة السّقراطيّة في جعلِ الطّرف المُقابل يدرِكُ تناقُضاته الشّخصيّة الّتي ارتكبَها ، و هكذا ربحَ الرّجل قلوب هؤلاء الشّباب بحيثُ لم يتركْ أيّاً منهم و في قلبه شيء من بقايا حنينٍ إلى النّازيّة و بادلهُ هؤلاء الشبابُ من جانبهم كلّ الإخلاص و الإيمان بمبادئه في التسامح و التفهّم .