هناك صلة قوية بين قوة التقليد الروائي في البلد ونفوذ المحرر. و يستشهد أندرَي غاسبارد من دار" كتب الساقي Saqi Books " بحقيقة أن الروايات شكل أدبي جديد نسبياً في اللغة العربية كسبب من الأسباب الكامنة وراء عدم وجود تقليد تحريري قوي في العالم العربي، كما
هناك صلة قوية بين قوة التقليد الروائي في البلد ونفوذ المحرر. و يستشهد أندرَي غاسبارد من دار" كتب الساقي Saqi Books " بحقيقة أن الروايات شكل أدبي جديد نسبياً في اللغة العربية كسبب من الأسباب الكامنة وراء عدم وجود تقليد تحريري قوي في العالم العربي، كما تقول ريبيكا كارتر في مقالها هذا. أما في الهند، فإن التحرير ينتعش فقط في النشر باللغة الانكليزية، و السبب في ذلك جزئياً أن اللغات الهندية الأخرى لها تقاليد نشر مختلفة بالنسبة للأدب القصصي ( سلسلة القصة في المجلات، أو تعاونيات مؤلفين مثلاً ) لكن أيضاً بسبب سيادة الرواية. و قد ذكر العديد من المحررين الهنود العمل المؤثر لدَيفيد ديفيدار مع فيكرام سيث في رواية ( ولد مناسب A Suitable Boy ). و تأثير الطرق البريطانية و الأميركية هنا واضح، و هذا يسري من دون القول بأن " المحرر الأميركي " يُعتبر على الدوام المثال الأسمى لشخص قادر على خفق الرواية إلى شكل. و حين بحثت هذه القطعة، بدأتُ أدرك أن تاريخ تقليدٍ بلغ أوجه في أمثال ماكسويل بيركينز كان أكثر من موضوع لرسالة الدكتوراه في الفلسفة، و ليس شيئاً ما أعطيه حق قدره هنا. و قد قام هانز جيورجين من دار فيشر بألمانيا من أجلي بتتبع أثر خط يمتد من إيراسموس و مانيوتيوس إلى ناشري القرن التاسع عشر الألمان العظام مثل رودولف شتاينر، الذين استجابوا للتصاعد في معرفة الكتابة و القراءة و الطلب الملازم لها على أدب يمكن شراؤه. فتحدَّث عن تأسيس دار فيشر فيلاغ في عام 1886 و صداقة العمر بين مالكها و الأديب الألماني توماس مان. و واضحٌ أن هذه التقاليد كان لها تأثير كبير على النشر الأميركي، الذي رد في المقابل بتأثيره، مصدّراً ليس الروايات الملهمة فقط، بل و فكرة المحرر الإبداعي أيضاً.
لكن إذا كان التقليد الروائي لازماً لوجود محررين أقوياء، عندئذٍ يكون هناك اقتصاد يستطيع أن: أ) يدفع تكلفة الترف luxury، و ب) قِيَم الترف. ففي هولندة يمكنك أن تدرس الأمور العملية للتحرير في الجامعة. و في الدانمارك، تقوم (مدرسة الكتّاب الوطنيين ) بتعليم الطلبة " أن يتوقعوا التشاحن مع محرريهم "، وفقاً لتعبير جوهانيز ريس من دار جيلديندال. و في كلا هذين البلدين، يمكن وضع المهارات المتعَلَّمة موضع التطبيق داخل دور النشر. أما في روسيا، فإن الصورة مختلفة نوعاً ما. فمعهد الأدب بموسكو يرعى المحررين الشباب، لكن المحررين المدرَّبين هناك، وفقاً للوكيلة و المحررة أيلينا كوستيوكوفيتش، لا يمكنهم أن يجدوا وظائف لهم لأن صناعة نشر ما بعد المرحلة السوفييتية فتية جداً على تطوير تقليد تحريري خلال هذه المدة. و بدلاً من ذلك تركز على طباعة أكثر ما يمكن من المطبوعات و بأقل تكاليف انتاج ممكنة. و في مثل هذه البيئة على " المحرر " أن يُصبح مركّزاً على كتابة النسخة و العثور على فرص انتشار للمؤلفين.
هذا النوع من التوجه التجاري القاسي مجرد بداية للتأثير في محررين في أماكن مثل هولندا و ألمانيا. و يكتب هانز جيورجين بالمز عن كيف أن " المزيد و المزيد من المهام يجري تكديسها على مكتب المحرر، جاعلةً إياه يبدو مثل مدير إنتاج ذي عملية معقدة جداً، و تاركةً له القليل من الوقت ليعنى بحاجات المؤلف. " لكنه لا يعتقد بأن مفتاح التحويل من " محرر " إلى " مدير إنتاج " قد تم بشكل كامل. إن ذلك فقط " على الأفق on the horizon "، يقول بالمز، و سيكون غير سعيد لو حدث ذلك. و يبدو أينريك موريلو أقل تفاؤلاً بشأن علاقة دور النشر الأسبانية بمحرريها، حيث يقول : " في اسبانيا، المحررون مثل الخنازير في معمل نقانق : رائحتهم سيئة، لكن من الصعب الاستغناء عنهم. أما في هولندا، فإن الجهود المبذولة للتخلص منهم تحقق نجاحاً أكبر فأكبر. و في بعض الشركات المتحدة الكبيرة، فإن المحرر مجرد شخص يقرأ تقارير قرّاء، و ليس كتباً حتى. " و الأمل، بالنسبة لموريلو، هو في النتاج الجديد من دور النشر المستقلة الصغيرة، حيث يؤخذ الوقت للعمل مع المؤلفين، و ذلك على وجه التحديد اتجاه حديث بأن العلاقة الإبداعية بين المحرر و المؤلف آخذة بالانتقال من شركات النشر الكبيرة.
إن العموميات أمر خطِر، مع هذا، عند مناقشة بيان يتعلق كثيراً بأفراد و علاقات شخصية. و غالباً ما يذكر المحررون البريطانيون و الأميركيون اعتقاداً بأن المحررين، في بلدان أخرى، لا يحررون، لكن هذا لم تفرزه محادثاتي مع ناشرين أجانب. فالشيء الوحيد الذي ميَّز جميع المحررين الذين اتصلتُ بهم هو تشوقهم للحديث عن موضوع التحرير، و حبهم لِما يقومون به. و كانت لديهم جميعاً قصص عن محررين استثنائيين : كارلوس بارال، الذي أتى بأدب حديث إلى أسبانيا في الخمسينات و الستينات و الذي يعزو إليه الروائي البيروي بارغاس يوسا الكثير من الاقتراحات المفيدة بشأن نتاجه؛ أو غرازيا تشيرشي في إيطاليا ــ و هي امرأة استثنائية، قامت برعاية مؤلفين من أمثال ستيفانو بيني و أليساندرو باريكو، و هي تتتبع رواياتهم عبر مسودات كثيرة، و تزورهم في بيوتهم، حاملةً إليهم وجبات طعام ليقدموها إلى أشخاص نافعين لهم. و تقتبس كلارا كابيتو من الروائي البرتغالي البارز أنطونيو لوبو أنطونيس قوله " أن تجد، في البرتغال، محرراً عظيماً أصعب من أن تجد كاتباً عظيماً. " لكن هذا كان في سياق تفجّعه على الموت المبكر لمحررته، التي قال إنه لم يكن يتخيّل تقريباً أن يواصل العمل من دونها. و لا يتلقى المحررون على الدوام مثل هذا الاستحسان العلني من الكتّاب الذين يعملون معهم. و قد قالت لي ميوغ سوكمَن من دار ميتيس في تركيا إنها، في الثمانية و العشرين عاماً من عملها التحريري، لم يشكرها علناً سوى مؤلف واحد على مساعدتها في إظهار كتابه بالشكل الذي حقق له النجاح. و توضح ميوغ في تواضع أنها لا تتوقع تشكراتٍ علنية : فمن عمل المحرر، بعد كل شيء، أن يجعل الكتاب أفضل. لكن ما يهمها أنه إذا ما رفض مؤلف أن يعترف بدور المحرر في نجاحه، فإن المؤلفين لن " يحاولوا أبداً كتابة نصٍ أفضل، بل يعتمدون دائماً على آخرين في إصلاحه. " و هذا في الحقيقة بعيد جداً عن استحضار ألبيرتو رولو للخيمياء alchemy(*) الإعجازية تقريباً التي تحدث حين يكون المؤلف و المحرر منفتحين أحدهما على الآخر. " فبطريقتين مختلفتين جداً، لا يعود النص الذي اشتغلا سويةً عليه راجعاً لهما. و يعود المحرر إلى مؤسسته. و يرجع المؤلف إلى حياته. و الوقت الذي تشاطراه بعيد تماماً عن المؤسسة و عن عملها التجاري مثلما هو بعيد عن أنا الكاتب و رغبتها في التعبير عن ذاتها. لكنه وقت أساسي، و إلا فشل الكاتب، و فشل المحرر، و فشل النشر. "
و تعتقد آمي سبانغلر، و هي وكيلة تمثّل مؤلفين أتراكاً، بأن هذه الخيمياء تحتاج إلى عنصر ثالث : القارئ. و هي متفائلة بشأن مستقبل التحرير في تركيا. و كما ترى، " فإن جمهوراً متنامياً في الوقت الحالي من القراء المتفتحي الذهن سيطلب من ناشريهم ما هو أفضل ، و لهذا سيكون الناشرون مجبرين على السماح لمحرريهم بوقتٍ أكثر لتكوين عناوين فردية. و سيكون على الكتّاب بدورهم أن يُصبحوا معتادين على انفتاح أكثر للنقد و تلقي المشورة. و لك أن تدعوها خيالية إذا شئتَ، لكن تلك هي رؤيتي. " و أعترف أنا بأنها رؤيتي أيضاً، و إلا فإنني يمكن أن أكون قد تخليت عن العمل الآن. و في كتاب أقوم بنشره لاحقاً هذا العام، ( 2011 )، عنوانه ( هذه ليست نهاية الكتاب )، يتحدث أمبيرتو أيكو عن كيف أن الكتاب، بالنسبة للكاتب، لا يمكن إنهاؤه أبداً في الواقع، و كيف أن النشر الرقمي digital يفتح إمكانية إعطاء القارئ مدخلاً للوصول إلى نصٍ متطور باستمرار. صحيحٌ أن النص الكامل مثلٌ أعلى مستحيل، لكن الشيء الوحيد الذي سيبقى، برأيي، في الصناعة المتطورة سريعاً التي أعمل فيها هو أن الكتّاب سيريدون على الدوام شخصٍاً ما يتحدثون إليه عن كيفية جعل نصوصهم أفضل. و قد يكون هذا الشخص يعمل في دار للنشر، لكنه قد يكون على السواء عاملاً في وكالة أو مكتبة. و الأمر المهم هنا أن يمتلك هذا الشخص رغبةً في أن ينحّي أهواءه جانباً لينغمر في إبداعية شخص آخر، و يساعد في أن تجد هذه الإبداعية شكلاً لها. و لحسن الحظ، هناك أشخاص من هذا القبيل في كل مكان.
(*) الخيمياء ممارسة سحرية قديمة لتحويل معدن الى آخر.
عن / words without borders