الإحصائية (المحزنة) التي صدمتنا يوماً, وما زالت تصدمنا، كلّما تذكرناها.. تلك التي تزعم أنّ ما ترجمه المترجمون العرب مجتمعين ـ ومنذ عصر المأمون ـ هو اقل ممـّا ترجمته اسبانيا لوحدها في شهر واحد.. ومنذ عشرات السنين! وأقول (تزعم), متفائلاً, فعسى ان تكون
الإحصائية (المحزنة) التي صدمتنا يوماً, وما زالت تصدمنا، كلّما تذكرناها.. تلك التي تزعم أنّ ما ترجمه المترجمون العرب مجتمعين ـ ومنذ عصر المأمون ـ هو اقل ممـّا ترجمته اسبانيا لوحدها في شهر واحد.. ومنذ عشرات السنين! وأقول (تزعم), متفائلاً, فعسى ان تكون تلك المعلومة أقلّ خزياً من الواقع! غير أنّ هنالك أدلـَّة أخرى مؤسفة وكثيرة, لا تزعم ، بل تؤكد , فيما لو أننا توسّعنا في مفهوم الثقافة, أبعدَ قليلاً من الكتاب العربي تأليفاً وترجمةً, ونظرنا بعين الشاهد, لا المشاهد, إلى مكوّنات (الثقافة) الأخرى من فنون المسرح والسينما والتشكيل والموسيقى.. وكما التفتنا آسفين من سنين بعيدة إلى جمهورنا الثقافي العربي, فوجدنا مثلاً أنّ افلام المخرج البدائي حسن الامام, مع الأفلام الهندية الساذجة، كانت الأكثر جماهيرية من افلام شادي عبدالسلام ويوسف شاهين، وطبعاً من أفلام الموجة الجديدة الايطالية والفرنسية في أزمنة الستينيات والسبعينيات, وهي العشرون عاماً الأرقى والأزهى في تاريخ الثقافة العربية وحتى اليوم.
وإنّ روايات إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله.. كانت الأكثر مبيعاً ـ بما لا يقاس ـ من روايات نجيب محفوظ ـ حائز جائزة نوبل لاحقاً، حتى لكأن النخبة العربية القارئة هي التي اكتشفت محفوظاً من بين ركام المطبوع من روايات أولئك الثلاثة.
وحتى مع وطنيتنا اللافتة وعراقيتنا الطاغية زمانذاك, فلقد كنّا موافقين على دقة المقولة الشهيرة عن (القاهرة التي تكتب، وبيروت التي تطبع، وبغداد التي تقرأ.. تقرأ فقط!) وأنه حتى لو طبعت بغداد ـ وكانت تؤلف وتطبع ـ فإن الكتاب العراقي, منذ الاربعينيات صعوداً, كان فقير المظهر ـ مثل المتسول بين الكتب ! ـ ابتداءً من غلافه الذي كان يشبه الكتب المدرسية التي ما كنّا نحبها ـ إلى نوعية الورق الأرخص، قياساً إلى المظهر الزاهي للكتابين المصري واللبناني.. حتى اننا ما كنّا نلتفت إلى كتب جواد علي وعلي الوردي, ولا حتى الى دواوين الجواهري.. ما لم ينّبهنا إليها, على الأرصفة، أحد معارفنا من القرّاء الجادّين!
وكذا الأمر طبعاً مع صُحفنا الكئيبة التي كلها بلون الحبر الأسود فقط, مع وجود حبر أحمر وأخضر وأزرق, لعناوين الصحف على الأقل...وما كان العراق يمتلك أية مجلة بالمعنى الصحيح، بل حتى (مجلاتنا) ـ منذ الأربعينيات والخمسينيات ـ كانت عبارة عن صحف اصغر حجماً وأكثر ورقاً, من مثل (قرندل) و(الاسبوع) اللتين أنقذ توزيعهما كاريكاتير الفنان الشعبي (غازي).
وكنّا مدينين بحق, في حماسنا القرائي للصحافة الوطنية العراقية السّرية والعلنية، وأعني صحافة الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وإلى مقالات الجواهري في صحيفتيه المتتابعتين (الفرات) و(الرأي العام) ونحن مدينون جميعاً لتلك الحالة النادرة, في السبعينيات، التي أسهم فيها القارئ بتمويل طباعة كتاب قبل صدوره، أعني رباعية الروائي الوطني العراقي (شمران الياسري).. حيث تكفل القارئ للمرة الأولى في الوطن العربي بتمويل طباعة كتاب والاشتراك المسبق بدفع ثمنه!
ونقول اخيراً :
هل ما زالت بغداد تقــرأ؟ شارع المتنبي يُجيب (نعم) غير اننا نحن الذين تربينا على قلم الرصاص، ثم (الباركر).. مازلنا متمسكين بقلم الحبر، (على الرغم من أنه كان سائلاً ثم صار جافاً!) فإننا ما زلنا كذلك متمسكين بالكتاب الورقي وبالجريدة الورقية، معتقدين، من دون تعصب، أن شاشة المعلوماتية، تبقى إختراعاً بشريّاً عظيماً هائلاً.. غير انها تبقى لدينا نحن كهول الثقافة (شاشة فرجة!) أين هي من متعة الكتاب الورقيّ ، وقلم الحبر!؟