قد لا يشكل حديثنا معنى كبيرا ونحن نتحدث عن معرض اربيل الدولي للكتاب، الذي تقيمه مؤسسة المدى شيئا ذا بال اذا ما حصرناه بسعة المعرض وعدد دور النشر العربية والاجنبية والمشاركة الكبيرة، لكن قراءة متانية للظاهرة، تنتج لنا اكثر من مدخل لقراءة التحولات الثقافية، التي اوجدها الحراك المدني في عموم كردستان، فقد كان اقبال الشباب على زيارة المعرض وشراء العناوين النوعية في الثقافة وتكرار الزيارة هو العلامة الفارقة في المشهد.
جيل قراء جديد تتشكل ملامحه في كردستان راح يبحث في اروقة المعرض عن همومه الثقافية، جيل تخلّص من عقده القومية، يقرأ الكتاب العربي، يتعرف على الكتّاب الكبار في الفكر والشعر والرواية والفنون وسواها، جيل يشق طريقه في فسحة النور التي اتاحتها لها المؤسسات المدنية، الرسمية وغير الرسمية. لم تتمكن من احتوائه التيارات الدينية المتشددة، التي كان وجودها واقبالها على شراء الكتب في المعرض لافتا ايضا، الامر الذي يجعل من اقامة معارض الكتب يكتسب معاني اخر في رصد الظاهرة والوقوف على ما يتوجب فعله، من اجل منهجة الثقافة بما يخدم الوجود الانساني وتطلعاته للحرية والعيش الآمن.
تمشي في اربيل، داخل قطعة الارض الواسعة جدا- بارك سامي عبد الرحمن - التي يقام عليها معرض الكتاب، وهي قطعة خضراء بملايين الزهور، فيها من وسائل الترفيه ما يكفي لتنزه سكان المدينة اجمعهم، وما في ذلك مبالغة، فتجد تناغما عبقريا كبيرا بين مشروع الثقافة داخل المعرض وبين الثقافة كمعطى حضاري، قائم خارجه، الناس في بهجة وحراك مدني يبدأ من الحضور الآمن للمرأة صحبة الاطفال ولا ينتهي باحترام الناس الزائرين لها، الشباب بثياب انيقة وتسريحات شعر جميلة مندفعون للمعرفة واقتناء الكتاب، يجمعهم هم حضاري مدني لا نجده في اغلب مدننا في الوسط والجنوب، مع الاسف. وحين يجدُّ الباحث في آلية استخلاص ذلك الحراك والتناغم ما بين المدينة والمعرض يكتشف أن عقلاً وفلسفة حضارية، تبنتها حكومة الاقليم، أصرت على جعل الثقافة مشهدا متوازيا بين الشارع والبيت والمكتبة والمؤسسة.
أن تعمل الزوجة أو الزوج على اصطحاب الابناء الى المعرض قبل زيارة الحديقة وتناول الطعام في احد الاكشاك الكثيرة التي تقدم اطيب انواع الماكولات والمشروبات، أن تاتي البنت الجميلة صحبة زميلاتها، زميلها، حبيبها وتتخذ من زاوية في المعرض فسحة للقراءة والبحث وممارسة الحرية،أن تشعر المرأة بوجودها الكامل في ما ترتدي وتتحرك وتستعرض. امر لا تشعر به الا من ظلت تعاني من مرورها الخائف السريع وسط غابة الذكورة المضطرمة في مدن الجنوب، التي راحت تنغلق وتتشح بالسواد نتيجة التشدد والخرافة والسحق الانساني قضية لا بد من التوقف عندها، اذ تفقد المعارض الكثيرة التي اقامتها وتقيمها جامعة البصرة منذ العام ٢٠٠٤ حتى اليوم، ذلك لاننا نشعر بالقطيعة التامة بين ما يعرض من كتاب فيها وبين ما يحدث ويعتمل في شوارعنا ومؤسساتنا، هذا اذا سلمنا بوجود الكتاب الذي يدعو للمدنية والثقافة والتحضر، مع يقيننا بان معظم ما يعرض فيها من كتب ظل يكرس للطائفية والتشدد أو للبحث عن وسائل (حضارية) لاتقاء عذاب القبر، في عملية ممنهجة لتحطيم وسحق النفوس.
الليل في اربيل خالص للتنزه وتعاطي الجمال، تنغلق ابواب المعرض عند العاشرة مساء فلا تجد صعوبة في البحث عن مكان للجلوس والتجوال، ياخذك سائق التكسي الذي لا ينفك يسمعك اجمل الاغاني من مذياع سيارته الى مركز المدينة، حيث القلعة الاثرية، التي يخرج مقهى (مجكو) الخاص بالادباء والمثقفين منها مثل قطعة ماسية نادرة، المقهى من أعمال حكومة الاقليم لصالح ثقافة المدينة، ولانك لا تعرف احدا من الادباء الكورد بسبب قطيعة اللغة سيكون في وسعك التجوال في الفسحة الكبيرة الممتدة حوالي القلعة، وهي اسواق وساحات وحدائق ونافورات ضوء وماء، لا تعدم فيها رؤية قاع المدينة والتعرف على سر البهجة التي ينعم بها السكان هنا.
سيكون منغصك الوحيد هنا هو المقارنة بين ما انت فيه اللحظة هذه وبين ما تتخيله قائما في البصرة ومدن جنوبك الفقير الا من غمامة الحزن التي ظللته طوال الاعوام الماضية. السوق الفخم بطرزه العراقية القديمة، وسقوفه الطابوقية الجميلة، الايوانات الهلالية الشامخة، اقواس النور التي تنبعث من مداخل المحال وحركة الناس تذكرك بصورة اربيل قبل عشرين عاما حيث كنت جنديا تدخل مطعم كويسنجق القديم، حيث كانت المدينة بمقهى واحد ومطعمين وثلاثة فنادق فيذهلك التحول السريع، الانقلاب الحضاري الذي عصف بها. لم تك معجزة ابداً، كانت عزيمة واصرارا وعشقا تظافرت عليه جهود الجميع فقامت قيامة مدينة كانت ضيقة على اهلها، هي اليوم تبحث عن مكانها بين اجمل مدن الشرق الحديث.
الانسان الكامل فكرة يوتوبية بكل تاكيد، والجمال الكامل ايضا، لكن الانسجام قد يكون كاملا بين الجمال والجمال، بين الخراب والخراب، الجمال حين يكون مشروعاً، واخراب حين يكون مشروعا، في اربيل الثقافة مشروع للجمال أما في الجنوب وفي البصرة على وجه التحديد فالخراب مشروع لوأد الجمال.
معرض أربيل للكتاب.. صورة أخرى للجمال
[post-views]
نشر في: 4 إبريل, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
ميفان مدحت
كلامك جميل حول اثار التقدم في اربيل . اذا كنت تسال عن سبب تقدم اربيل وتاخر البصرة ، ذلك لان الناس هنا يعشقون ارضهم ، يحبون مدينتهم ، والاكثرية علمانيون . اما المعرض فقد احزنتنا كثرة الكتب الدينية ، حتى كان المعرض عرس للملالي والسلفيين .
عادل السرحان
ان القلوب والعقول المتلهفة الى الحب والمعرفة لاشك ترى في هولير مشروعا نهضويا قائم على التأني والروية والتخطيط دون ضجيج القوالين الذين صدعوا رؤوسنا بكذبهم وخداعهم بل سرقوا احلامنا بل شوهوا كل ارث العراق الجميل ولم يقدموا لنا سوى التخبط وثقافة سوداوية لاتمت