لقد غضب الفقهاء على الفيلسوف ابن سينا وكفروه حين قال قبل قرون "ان الله لا يدرك الجزئيات". فالعبارة توحي بان الإله يعتريه نقص إدراكي. وخلاصة ما اراده شيخنا الرئيس في مذهبه الفلسفي ان الله ليس بجسم، وبالتالي فإنه لا يمتلك اذنا ولا انفا ولا اصابع، فمن المستحيل ان يدرك الاصوات والروائح ويلمس الاجسام ليتعرف عليها. اي ان تعاليه وقداسته وفرادة وجوده الخاص والاستثنائي، تجعله اسمى وأرفع من ان يستخدم حاسة مادية لادراك الجزئيات، بل هو عقل كلي يدرك المفاهيم الكلية والقوانين العامة والنظريات وما اليها.
وقد تذكرت هذا الوصف وانا استمع الى اساتذة اجلاء، مستمتعا بوصفهم النظري لمشكلة الدولة في العراق، ومعالجتها عبر نماذج وموديلات زخر بها الفكر السياسي ونظريات نشوء الدول وانظمة الحكم، وكان ما تناولوه وصفا مفرط الذكاء لعجزنا السياسي، واستمتع الحاضرون باحاطتهم وعمقهم في تحديد نقاط الضعف التي اعترت العمل المضني طوال ١٢ عاما بعد صدام حسين. لكن حديثهم كان على قاعدة "ان الله لا يدرك الجزئيات، وهو يدرك الامور الكلية العامة فقط". فخبراؤنا كانوا يتحدثون عن نظرية عامة دون ان يقتربوا من الارض، ورغم ان ما طرحوه كان مفرط الإمتاع، الا انه لم يقدم اجابة كافية عن سؤال ندوتهم وهو "كيف سيكون شكل العراق بعد داعش"؟
استاذ ألمعي نبهني الى ان عدم الاجابة عن هذا السؤال، هو جواب في حد ذاته، اذ يعكس تعقيد العوامل التي تتحكم في رسم الصورة من جديد. وقد كنت شخصيا انتظر من خبرائنا ان يمسكوا بالتفاصيل المهمة التي تشكل مدخلا نحو رؤية كيف سيكون شكل العراق السياسي والامني بعد طرد داعش، من قبيل ان نتناول من زاوية الفلسفة السياسية، ورقة الاصلاحات التي وقعها حيدر العبادي اثناء تشكيل حكومته، وهي نسخة مطورة لاصلاحات سبق وان طرحت في ٢٠١٢ في ملف سحب الثقة، وهي ذاتها نسخة من ورقة اصلاحات طموحة وقعها الزعماء في ٢٠١٠ مع تشكيل حكومة المالكي في اتفاقية اربيل.
الخبراء المنتقدون للنظام السياسي لم يقوموا بالاشارة الى اي محاولة اصلاحية شهدها العمل السياسي في العراق، ولو من قبيل تشريعات اللامركزية، وما تعنيه في رسم مرحلة ما بعد داعش خصوصا في المناطق السنية، وكذلك لم يناقشوا معنى ان تحصل المناطق الساخنة على قوة دفاع ذاتي، ولا التفاصيل الاخرى المتعلقة بمراجعة العلاقات السياسية وتعديل قانون الاجتثاث والعفو العام، وسوى ذلك مما يمكن ان يخفف الاحتقان، ويعيد الاعتبار لمعنى الدولة الذي كاد يتبدد ويضعف.
لقد استغرقنا وقتا طويلا لوصف نقاط الضعف في نظامنا السياسي، لكن غالبية خبرائنا ومثقفينا المعنيين بهذه الافكار، ظلوا بعيدين ومتعالين، عن ادراك التفاصيل او الحديث عنها، وحين تغيب تفاصيل مهمة فان الصورة المتعالية الكلية تصبح مشوشة وغائمة، وتجعل منا سلبيين، وتباعد بين صاحب الرأي والعلم، وصاحب السيف والسياسة، وكما ان اصلاح العملية السياسية فرض عين، فان التدبر في اصلاح سجالنا السياسي يبدو فرضا لازما كذلك.
لقد دافع ابن سينا عن نفسه، وقال ان على المنتقدين ان يتدبروا في تمام موقفه النظري، وان يكملوا باقي عبارته في باب العلم الالهي، ليفهموا المقصود من "ان الله لايدرك الجزئيات"، فالرب لا يحتاج هذا النوع من الادراك المستلزم للحواس المادية، والمعروف بانه "ادراك حصولي" بصور ومفاهيم حسية، لكن الله يدرك الاصوات والطعوم والالوان، بواسطة نمط ادراكي ارقى، يعرف عندهم بالادراك "الحضوري" حيث تحضر الاشياء بين يدي صانعها وتصبح معلومة بلا توسط الحواس، فالرب يدرك الجزئيات ايضا ولكن بنحو اخر.
وبالطبع فان هذه مقارنة مع فارق كبير، فلا مثقفونا ومفكرونا آلهة، ولا انا بمثابة الشيخ الرئيس، لكنني اتمنى عليهم ان يستدركوا القول، كما استدرك صاحب إلهيات الشفاء عبارته وأكمل مقاصده، لنحصل على سجال سياسي اكثر جدوى وأقرب للغرض، ولنثبت ان الرب يدرك الجزئيات ايضا وان بنحو اخر.
الله لا يدرك الجزئيات
[post-views]
نشر في: 6 إبريل, 2015: 09:01 م