TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > استئصال

استئصال

نشر في: 7 إبريل, 2015: 06:01 م

مستريحاً في غرفة العمليات، وقبل أن يبدأ المخدر مفعوله، قلتُ "رحلة موفقة دكتور." أجاب ضاحكاً "آمل ذلك." رحلة الدكتور عبر الوريد، مع أنبوبٍ مزوّد بكاميرا دقيقة ومجسّةِ استئصال، إلى البطين الأيسر من القلب. هناك يتم البحث عن الندوب المولّدة لنبض القلب غير المنتظمِ واستئصالها، ويستغرق ساعات ثلاثاً أو أربعاً، ولكنها في زمن المخدر لا تتجاوز رمشةَ جفن. حين استيقظت كانت الغرفةُ نصفَ مضاءة، ووجهُ الممرضة يتأملني ويبتسم، استجابة لابتسامتي، إلى جانبها كان فم الدكتور يتحدث لي "كانت رحلة موفقة تماماً."
هذه عملية "استئصال" ثانية، الأولى أجريتها قبل خمس سنوات على ما أذكر، أما سرير المستشفى فأكثر من مألوف، وكذلك أوجهُ المرضى على الوسائد البيض، يبعث بي رضىً كما تَنبعث الحكمةُ من الخبرة. أجناسٌ خليط من الأحياء التي بدت لي سهلةَ المكْسر، مستسلمةٌ كما تستسلم أوراق خريف بالغة السحر لمجرى ماء بالغ الصفاء. أجناسٌ في ساعاتها النادرة، إذْ يُخْليها الاستسلامُ إلى مصائرها من كل طويّةٍ سيئة، كما تُخلي المصفاةُ الماء من الشوائب. في الردهة معي ثلاث سيدات على أسرّتهن: هندية، بولندية وانكليزية لعلها تجاوزت التسعين، وأغلب الممرضات من تيلاند والصين. أربعة أحياء يتبادلون الصمت والابتسام كل حين، السيدةُ الانكليزية التي تجاوزت التسعين، مع التهاب رئوي حاد، شغلت الردهةَ وطاقمَ التمريض بفعل مسٍّ من خرَفٍ، يوهمها بأنها في بيتها. وتتحدث مع الممرضات من علٍ، على هذا الأساس، وبفعل سعالها الذي لم ينقطع، لم أستطع النوم حتى الفجر. حاولت أن أشغل النفس بالقراءة في الهاتف النقال الذي إلى جانبي، مددتُ أصابعي إليه فلم تبْلغْه أصابعي بفعل الارهاق صارت المسافاتُ بين الأشياء لا محدودة.
حين غادرني الدكتور، بعد زيارة خاطفة بشأن عملية الاستئصال، طاب لي أن أُسائل النفس: ما إذا كان القلب الذي تحدث عنه هو موطن العواطف حقاً، عضلةٌ، يارجل! مجرد مضخة عضلية تستلم أوامرَ نبضها من المخ، لتبعث الدم النقي إلى خلايا الجسد جميعاً. تبعثه، لتستلمه، ثم لتبعثه فاسداً إلى الرئة للتنقية. هل كان أبو نؤاس يعنيه، حين أشار إلى "موطن الأسرار"؟ لقد أوقف الخمرةَ، حين دبَّ دبيبُها إليه، خشيةً من فضح أسراره، ولكن الإشارة لم تكن صريحة، ودبيبُ الخمرة يبلغ كل خلية في جسد الانسان، ولذلك اقترح المفسرون الدِّماغ، إن لم يكن القلب، وهو أنسب موطناً للأسرار، ومكمناً للعواطف.
ولكن ما العواطفُ؟ ما الأفكار؟ ما الذاكرة؟ وما المخيلة؟ رائحةُ الطعام تُقبل إليك، وقت الظهيرة، مشوبةً برائحة الأدوية والمعقمات، تماماً كما تُقبل القصيدةُ من حمّى العاطفة، الفكرة، الذاكرة والمخيلة مجتمعةً. ابتسمتُ في وجه الممرضة التي تفحص ضغطَ الدم، لأن المقارنةَ بين رائحة الطعام الخليط، وخليطِ القصيدة أعجبتني تماماً. ورحت أكتب في داخلي رؤوس أقلام لفصل من كتاب في هذا الشأن. ولمْ أغفلْ أن أضع كلمة "جنون"، لكي لا أنسى، فالجنون إنما يحتلّ موقعه الخفي في عملية الخلق، لأنه كفيل بإرباك التواصل المنطقي والعقلي بين تلك العناصر، هذا الإرباك وحده الذي يسمح للعاطفة والفكرة والذاكرة والمخيلة بأن يخترق بعضُها بعضاً.
السيدة الانكليزية التي تجاوزت التسعين، لم تُفسد علينا نوم الليل وحده، بل يقظة النهار أيضاً، ولكن ظلت جلستُها المنحنية في سريرها مهيبةً، ولا تخلو من مسحة جمال. لا أعرف لِمَ استحضرتُ هيئة "فرجينيا وولف"؟ هل هو الخرفُ، التعالي أم النهاية الوشيكة؟ حين جاءتها الممرضة بصينية الطعام: طبق سمك مع البطاطا، عصير وحلوى، رفعت السيدة وجهها إليها قائلةً: هل لي بكأس نبيذ أحمر، رجاءً؟ أجابتها الممرضة بابتسامة حلوة: ولكننا في المستشفى لا نقدم نبيذاً مع الطعام. حنَت السيدةُ رأسها مهمهمة، حسدتها أنا على فيض الوهم هذا، كانت الشمس الشتائية تعرض المرضى على أسرتهم بحميمية مَن يعرض فراخاً في أعشاش، أيُّ ولعٍ هذا الذي يشدّني إليهم؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram