في رحلته الى البصرة سنة 1774-1775 يقول ابراهام باسونز : "نتيجة لموقع البصرة التجاري، يتوافد على المدينة الكثير من التجار الارمن واليهود والاتراك والمسيحيين ،مواطنين واجانب، ممن يشترون العمولة او على حسابهم الشخصي بالضريبة والتقدير، ثم يعيدون البيع مرة ثانية للتجار الاجانب، ويتحدث عن العملات النقدية التي يتعامل بها هؤلاء، فياتي على ذكر ليرات الذهب الايطالية ويجري الحديث عن تعاملات بين التجار القادمين ببضائعهم من بلاد الهند وفارس والجزيرة وبين القادمين من حلب واسطنبول وغيرها، وكل هذه تجري في اسواق البصرة حيث يقيمون بائعين ومشترين.
يتوقف باسونز طويلا عند منظر شط العرب الجميل وغابة النخل التي يصفها باكبر غابة نخل في العالم، ثم يتوقف اكثر عند الحراك التجاري والوئام العام بين الطوائف ورقي التعامل مع ابناء المدينة بمختلف التوجهات. لكني وفي فندق ديفان باربيل، أمس وجدت نفسي محرجا، مرعوبا من خجل وحياء حين حدثني احد الاصدقاء الكورد عن زيارته للبصرة العام الماضي قائلاً:" من غير المعقول ان يتحدث أحدٌ عن الثقافة في البصرة وكل المؤسسات الثقافية في المدينة، تقيم مبانيها بالقرب من نهر العشار، الذي هو المكب الرئيس للنفايات والمياه الثقيلة في المدينة، والذي تعبره الجرذان من جهتيه، رائحته تزكم الانوف، ومنظره يقزز النفس التقليدية، فكيف بالنفس الشاعرة المثقفة" وبين القراءتين اقف حائرا، هل اتحدث عن ضاحية عينكاوة الجميلة التي في اربيل، التي ضمت ورعت وحكت مسيحيي العراق ثم لجأ اليها العديد من ابناء الطوائف والاقليات، معززين مكرمين أم اتحدث عن ضاحية بريهة التي كانت مغلقة على مسيحيي البصرة، والتي تتهدم وتتسخ ساعة إثر ساعة، فيغادرها اهلوها ليحل محلهم من ضايقهم بالعيش والفكر والتشدد؟
في كل كتب التواريخ التي كتبها الرحالة العرب والاوربيين ترد البصرة كواحدة من مدن الشرق الساحرة، المهمة في التجارة والتمدن والتحضر، يحتفظون بصورتها في كتب مذكراتهم مثل ماسة نادرة في تاج شرقي خرافي، وظلت صورتها هكذا حتى وقت قريب، فالعراقيون الميسورون ياتونها عشاقاً ومتزوجين، يقيمون في يساتينها ودورها العريقة وفنادقها الجميلة، تخلب البابهم مناظر شطها الكبير، وغابات نخيلها الساحرة. هذه المدينة حلت اللعنة عليها منذ ان تسلم صدام حسين مقاليد البلاد واستمرت اللعنة هذه على ايدي الحكومات التي تعاقبت عليها بعد العام 2003 الى اليوم، وذهبت كل نداءات اهلها سدى، ولا أحد يفهم لماذا يصرّ هؤلاء على جعلها كاقذر مدينة في العالم.
اما اليوم فيعمل محافظها على منع المقاهي العشوائية المقامة منذ سنوات على كورنيش شط العرب، في حملة واضحة للحد من انشطة الاركيلة ومهربي ومتعاطي المخدرات، التي باتت تفتك بجيلنا الجديد، بعد ان تففن تجّارها في تهريبها الى المدينة، وقد كانت البصرة عبر تواريخها ممراً للحشيشة -التي تزرع في ايران- الى دول الخليج، ومنذ ان منعت حكومة البصرة، بموجب قرارها سيئ الصيت، الذي قضى بمنع بيع وتداول الخمور في حاناتها ومحالها التجارية وابناء المدينة يبحثون عن بدائل "شرعية" للترويح عن الضيم والهروب من الشوارع المغبرة والبطالة وصور الفساد التي باتت الاطار العام للمدينة، دون أن يلتفت اليها أحد من حكامنا، الذين لا عمل لهم سوى التفنن في طرد المستثمرين، ومنح العطاءات الكبيرة لمقاولين محليين فاشلين، من الذين اضاعوا مليارات الدولار في مشاريع زادت المدينة سوءاً وعمتها خراباً.
سيذكر التاريخ اسماء محافظي البصرة واحدا واحداً، وسيتوقف ابناؤها بملايينهم التي قاربت الثلاثة عند كل واحد منهم، وسيقلب الصحفيون والمحققون اوراق سجلات دائرة التسجيل العقاري والزراعة وغرف التجارة وستتضح صورة الفاساد باجلى ما يمكن، وسيعلم البصريون من سرق احلامهم، من استولى على البساتين والشوارع والاسواق، عند ذلك سيكون لهم مع كل واحد من هؤلاء حديث خاص. والله غالب على امره. آنذاك ستكون قراءتهم لرحلة ابراهام باسونز الى البصرة اكثر اهمية.
صورة البصرة في رحلة باسونز
[post-views]
نشر في: 7 إبريل, 2015: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 3
عمر
المقال يتصف بالتناقض , فالكاتب مرة يصف المخدرات بأنها تفتك بجيلنا الجديد ومرة يقول عنها البدائل الشرعية وينتقد قرار محافظة البصرة بمنع الخمور , وهو يشجع ويناقض نفسه لانه ينتقد ترك المخدرات وعدم ملاحقة مهربيها ,,, ثم هل الكاتب يرى أننا نترك اهل ا
محمد توفيق
الى عمر ... لا توضجنا... ترى روحنا طاكة... البوك حلال بالنسبة للسياسيين والمعممين بين قوسين وكلهم معدان وعماراتهم الفارهة على البراضعية والتنومة وكردلان والسراجي واللي ايديهم امتدت حتى لخمس الأمام الغائب اللي راح يشوف لما يطلع حتى خمس جده كلته الحرامية
Salim
ماذا نتوقع من شعب فاقد للطبقة الوسطى، دستوره الخرافة وسلطة الرعاع،لايملك الحس بالجمال لانه ببساطه قد طرد درس الفنية من المدارس منذ عقود . لانتوقع الا ان يختار النكرات لتقوده ويدافع عنها بضراوة وعنف. همه كم سيجني من اي عملية هدم، تخريب،وحتى قتل. ولتذهب الب