1
على هامش معرض أربيل الدولي للكتاب، قرأ ثلاثة شعراء قصائد من جعبة "الأسى" التي يحملونها على ظهورهم، ويوزعون أشطراً منها على جمهور الطريق، سالكين بفعلهم هذا منهجَ الشعراء الجوالين، في غابر الأزمنة. وإن كان شعراء المعرض قد جذبوا إليهم أسماعَ جمهورٍ م
1
على هامش معرض أربيل الدولي للكتاب، قرأ ثلاثة شعراء قصائد من جعبة "الأسى" التي يحملونها على ظهورهم، ويوزعون أشطراً منها على جمهور الطريق، سالكين بفعلهم هذا منهجَ الشعراء الجوالين، في غابر الأزمنة. وإن كان شعراء المعرض قد جذبوا إليهم أسماعَ جمهورٍ مختلط من رجال المدينة الكرد ونسائها مع آخرين من قوميات الجنوب والشمال، فذلك لأن الشعر كان يجري على ألسنتهم مجرى "الاحتجاج الناعم" الذي يبعث في النفوس ترددات صامتة من "الأسى" المقابل، الدفين من سنوات كالحات غوابر، اجتاحت العراق شمالا وجنوباً، ويُثير استجابات علنية من سنوات الحاضر على أوضاع تهدد طمأنينتهم واستقرارهم الاجتماعي والفكري. كان التجاوب كاملاً بين الشعر والجمهور "الاعتباطي" الذي أُخذ على هامش المعرض من تلابيبه ليضعه أمام "أساه" الشخصي الدفين، وألقاه في لجّة المعرفة الجامعة التي جاء ليحصل عليها من أروقة كتب الناشرين العرب والكرد والأجانب.
هذه المصادفة السعيدة للقاء المعرفة مع الشعر، والاحتكاك المباشر مع أصوات الطريق، المتباينة في جهرها وهدوئها، زهدها وفجورها، صدمَ أسماعاً رخيّة، مستسلمة لتيار شعورها الساكن، قبل أن يُثار ويُلقى طريحاً مع اهتزاز الرأس وسكب الدموع، فتساءلتْ بعد ذهول وشرود عن قيمة الشعر في طرح السؤال الجوهري عن كينونة "الأسى" المحمول في الصدور: أيكون شفافاً كسطح جدول بستان في أبي الخصيب أم هادراً كانحدار شلال في جبال كردستان؟ أيمكن للشعر أن ينوب عن الخطاب السياسي في مجادلة المنطق الجهم لجماعات التطرف العرقي والديني، واختراقه باحتجاج صوتيّ منغم، وفوضى حسّية من الصور والمجازات الشعرية، السائبة كجدول حيناً، والمنحدرة كشلال ثانية؟
عالجت قصائدُ الشعراء، في لجّة الحاضر المضطربة، أكثر من سؤال مطروح على قارعة الطريق، ونبّه احتجاجُها على قيمة الإصغاء والتقاط الأصداء الشعرية المترامية خارج "بروتوكولات" التوافق والمحاصصة السياسية، التي تصاحب أزمنةَ القصائد أو تحفّها بمنطقها البراغماتي المخاتل. كان هنا، في ساحة المعرض اجتماع مفتوح، واتفاق مكشوف، ونغمة منسجمة مع اختلاف اللغات والمسافات، من دون مواربة أو تزييف منطقي للمشاعر والأهداف. محا الاجتماع الشعري ذلك التنافر الذي نحسّه في تعدد الأزياء، ولكنات الألسنة، واحتكاك الأكتاف. كان هنا إيقاع جارٍ تحت النظر وملتقى السمع واتحاد الأجساد في كتلة "احتجاجية" ناعمة الملمس، غنية الخصوبة، لا مَراء في صدق تجمعها ومعرفتها.
2
في الشعر العراقي المعاصر ثلاثة اتجاهات: الغنائية الصلبة (وشاعرها المهم سعدي يوسف) والاحتجاجية الناعمة، والشاعرية المفكرة. وما قرأه الشعراء الثلاثة من الاتجاه الثاني (موفق محمد وكاظم الحجاج وطالب عبدالعزيز) في حفل سيكون الأول من نوعه في العراق، بسبب تنوع أصواتهم، وتناغم اتجاههم، أمام جمهور مختلط، في ساحة مفتوحة، سيشكّل البداية، لمن يبحث عن التأسيس والتفاعل مع الحدث الشعري في جـوِّه الطبيعي.
تُعيَّر الاتجاهات الثلاثة بعيار الشعر، المسعَّر بسوق الثقافة والسياسة والمجتمع أو بقيمة الزمن المطلق غير المسعَّرة. فالشعر إما أن يُقاس بظرفه، ومنه قصيدة الجواهري في استشهاد أخيه جعفر، وقصائد ألن غينسبرغ الهيبية إبان حقبة التمرد الستيني في القرن الماضي، وقصائد نيرودا وريتسوس الغنائية الثورية، وقس على ذلك عند تعيير قصائد السياب وسعدي يوسف ويوسف الصائغ ورشدي العامل؛ وإما أن يُقاس بعياره الصافي من شوائب السوق وظروف الزمن المتغيرة كقصائد أوفيد ولوكريتيوس وسافو والياس أبي شبكة وحافظ جميل. وقد تتغير قيمة القصيدة بحسب تمثّل الجمهور لعيارها في السوق الشعرية.
بماذا نسعِّر قصائدَ الاتجاهات الثلاثة، إن لم نسعرها بقيمة السوق المعيارية المتاخمة لسوق الإعلام الحكومي والتعبئة العسكرية للحشود الحائرة حول مصيرها ومستقبلها؟ وبماذا نسعّر قصائد الاتجاه "الاحتجاجي" إن لم نسعّرها بقيمة التجاوب الجمعي للجمهور المختلط في سوق الكتب بأربيل، وبمثيلتها من أسواق المعرفة الثقافية؟
لقد لاحظتُ من مكاني في القاعة الفسيحة، كيف يُولد النظامُ من الفوضى، والصمت من الضوضاء، والمعرفة الشعرية من الأسى الشخصي. لمستُ هذا التسعير، ورأيتُ بريقَ الذهب في عيون الجمهور المختلط، بما لا يدع فرصة للشك في قيمة القصائد الملقاة في ذلك اليوم من نيسان.
رأيتُ موفق محمد يرتجل قصيدته بلا مقدمات ترحيبية، لكي يستثمر حالةَ الترقب المرسومة على الوجوه أمامه، ويديم الزخمَ المعياري فلا يهبط سعرُ القصيدة تحت أي تدخل خارجي. بعده، جرَّ كاظم الحجاج الجمهور إلى "ذاكوراء" قصيدته المصممة لاستفزاز الأسماع ثم الذاكرات بمفارقات اللسان العربي الذي يحتمل التسعير بأكثر من معيار وقيمة متداولة خارج القاعة، أما طالب عبدالعزيز فقد بنى "احتجاجه" على قيمة الطبيعة الأصلية في جنوب العراق (أبي الخصيب) قبل انتهاكها بمضاربات السياسة والأيديولوجيا المتشددة، وتجاهل السوق لقيمتها الخالصة من الغشّ والتدليس. نجح الشعراءُ الثلاثة في عرض بضاعتهم الشعرية في سوق مضطربة، حافلة بالألغام الشعورية والمعيارية، لكنهم سطروا بأفواه الشعراء الجوالين قيمة ثابتة على توالي العهود والحقب، وكان الإلقاء الشعري بمستوياته شافعاً لهم في الهيمنة على جمهورهم المختلط.