TOP

جريدة المدى > عام > رحلَ "الخال" خليل شوقي

رحلَ "الخال" خليل شوقي

نشر في: 11 إبريل, 2015: 12:01 ص

رحلَ فنان الشعب وذاكرته " الخال " خليل شوقي الفنان والإنسان الذي كان وسيظل ملء السمع والبصر، حيث امتدت تخوم دولته الإبداعية إلى كل أطياف المجتمع العراقي لتجده وقد استقرّ رمزاً يدين له العراقيون جميعاً بالحب والامتنان.. اليوم وأنا أسمع خبر رحيل فنان ا

رحلَ فنان الشعب وذاكرته " الخال " خليل شوقي الفنان والإنسان الذي كان وسيظل ملء السمع والبصر، حيث امتدت تخوم دولته الإبداعية إلى كل أطياف المجتمع العراقي لتجده وقد استقرّ رمزاً يدين له العراقيون جميعاً بالحب والامتنان.. اليوم وأنا أسمع خبر رحيل فنان الشعب من صديقي الأستاذ زهير الجزائري عادت بي الذاكرة إلى آخر صورة شاهدتها للفنان الراحل لألمح في عينيه الغربة والحيرة .. فالرجل الذي عشق التجوال في شوارع بغداد، ظلّ يسير في آخر آيامه وحيداً في شوارع لم يألفها غريباً ومغترباً وهو يفتش عن مجتمع دافئ ومكان أليف وزمن سوي يعترف بالإنسان والضحك وحرية اللسان وشقاوة الأصحاب وترف الأمسيات.. ظل "الخال" خليل شوقي - كما كنا نسميه نحن محبوه- يسير في شوارع الغربة ولا يعرف هو ولا نحن عشاقه، أن النهاية ستكون رحيلاً لفنان رفض الاستسلام وغرد خارج السرب.. ونلمح ملامح وجهه المحبب إلى النفس فنقرأ فيه رحلة التعب والمواجهة ممتزجة بأفراح ومسرات الماضي.. تعب في العينين وابتسامة يختلط فيها الحزن والشرود وبساطة ترتفع على التصنع فنغمض أعيننا ونحن نتخيل صوته الرنان ممتزجاً بعبارات بغدادية عذبة:
سليمة خاتون الدنيا تغيرت تركض ركض لازم واحد يلحك بيها.
كأنّ الفنان الكبير قد اكتفى بأحلامه وتخفف من عقد المثقفين.. يقول الشيء المفيد ولا يكترث لزوبعة الأحكام..
ظلّ الخال خليل شوقي في سنوات الغربة الأخيرة ينظر إلى العالم الذي يحمل برودة المنطق وحرارة القلب.. بين الحزن على حلم تهاوى والاحتجاج الصارخ على ما يكسر الحلم..فكان دائما يصر على أن يكون صحيحاً وأن يقول صحيحاً وأن يمثل صحيحاً ، أن يكون صورة لفنان الشعب ومرآة العقل والإرادة ، يدافع عن المبادئ النقية ويظل نقياً يقاتل في معركة الحرية دون أن يكترث للربح والخسارة..يمزج بين الحلم والحياة.. تكون الحياة مصدر إلهامه ويكون الحلم صوت المستقبل الواعد.
عاش خليل شوقي في سنواته التي تعدّت التسعين بعام بعيداً في المنافي ترتجف اليد وتظل الذاكرة شابّة تجول في شوارع بغداد تصطاد حكايات العراقيين في الأربعينيات وأحلامهم في الخمسينيات وقلقهم في الستينيات وضياعهم في السبعينيات وبؤسهم في الثمانينيات وتشرّدهم في التسعينيات ونرى بغداد كلما طلع علينا الخال خليل شوقي بقامته الفارعة من على شاشة التلفزيون ونشمّ عبقها حين يهمس مصطفى الدلال : "سليمة خاتون تره آني مقصّر" ونحسّ نبضها في ملامح زاير ونرى تضاريسها في عيون عبد القادر بيك الماكرة، وهو يقول "لك رجب اتريد تقشمرني تالي عمري؟!" .. فنشعر بأننا إزاء شخصية حملت في جوانحها كلّ أفراح وأوجاع وأحزان ومسرّات العراقيين.

ينتمي خليل شوقي إلى طائفة من الممثلين الأثيرين إلى قلب المشاهد.. ممثل يتمتع بعبقرية لها طعم خاص يترك أثراً في النفس.. حين تشاهده تشعر وكأنك تقرأ كتابا ممتعا.. فعند هذا الفنان قدرة عجيبة على تشرّب الثقافة والحياة الكامنة خلف هذه الثقافة ، فعندما يقف الخال على خشبة المسرح يكون عقله وقلبه وأعصابه جزءاً من الأداء، فيعطي كل ما عنده في البروفة والعرض المسرحي، فتراه عندما يبكي على المسرح هو الذي يبكي وعندما يضحك هو الذي يضحك وعندما يبدع الشخصية لم يكن يتوارى خلفها وإنما يقف بالندّ منها.. كتب ستانسلافسكي مرّة :" إن على الممثل أن يكون مخرجا لدوره وهو لم يقصد بالطبع أن يضع الممثل مكان المخرج بل أراد التحدّث عن أهمية المبادرة عند الممثل وعن رؤيته الواسعة ودرجة مهارته"، وهكذا كان خليل شوقي في معظم أدواره، ذكياً يعرف ما يفعل. إنه لا يؤدي الدور حسب بل يقوم بتفسيره والتعبير عن وجهة نظره تجاه الأشياء والشخصية التي يؤديها ويمكنك مشاهدته منفردا وحده، فتستمتع وكأنك تشاهد مسرحية بطلها ممثل واحد ولكن بنفس الوقت تراه يخضع بحكمة وهدوء للعمل المسرحي الكلي.. في المسرح والتلفزيون يتصرف خليل شوقي كأنه شخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة الخارجة من حضن الأحلام بسدارة بغدادية أو يشماغ جنوبي وابتسامة محبّبة إلى النفس فيخطف قلوب وأبصار المتفرجين وهو يؤكد:
"لستُ متعلقاً بالشخصيات البغدادية فقط وإنما أنا متعلق بمجمل الشخصيات التي مثلتها ،لذلك أطلق عليها تسمية الشخصيات المنحوتة بطريقة زخرفية معبرة جدا "وهو هنا يعي جيدا ما قاله ستانسلافسكي من أن معايشة الدور تعني أن على الممثل في كل مرة وعند كل إعادة أن يحسّ ويفكر بصدق.. وهو يدرك أن المسرح فن للعب مثلما هو فن للمعايشة ولأجل اللعب يجب أن تكون موهوبا ولأجل المعايشة على المسرح يجب أن تمتلك الموهبة والثقافة وأن تدرس وتفهم الكثير عن هذه المهنة وقوانينها.
وقد اعتقد خليل شوقي أنّ الممثل يجب أن تتاح له طرق الخروج من القوالب التمثيلية الجاهزة وهو يدرك أنّ الممثل : " يجب أن ينظر إلى الحقيقة في السلوك الواقعي" ووفقاً لتعاليم ستانسلافسكي التي يعشقها الخال خليل شوقي فإن العناصر السحرية للتمثيل يجب أن تجمع بين موهبة الممثل وقدرته على التخيل .ٌ
لعلّنا نتساءل أين يكمن سرّ وسحر فنان أصبح جزءاً لايتجزّأ من تاريخ العراق ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram