(1)
ظن أولئك الظلاميون، المسلحون ببنادقهم ومطارقهم ومثاقبهم الكهربائية، أن تحطيم الثورين المجنحين (لاماسو) في متحف الموصل سيقضي، وإلى الأبد، على ما اعتقدوه بأنه فكرة دينية كافرة تتناقض مع الإسلام الهمجي الذي يمثلونه، هم ومن يشبههم، لكن الحجر المتساقط من تلك المنحوتات الفنية الخالدة تجمع على شكل "مدد" آشوري عمره أكثر من أربعة آلاف عام ليكون عوناً لأولئك الأبطال العراقيين الذين حرروا تكريت قبل أيام من الإسلام الهمجي المسلح (داعش).
مدخلي "الأسطوري" عن "المدد" الآشوري من جنس تلك الروح الأسطورية الخالدة لحضارة عظيمة سبقت البشرية في إقامة الدول المتحضرة، حسنة التنظيم والإدارة والدفاع عن النفس، والتأسيس لعالم جديد نعيش في كنف الكثير من علومه وفنونه حى يومنا.
من المحتم أن تندرس الحضارات ويندحر آلهتها وملوكها وأبطالها ومفكروها، لكنها تأبى على الزوال.. إذ ظهر مواطن عراقي آشوري اسمه هرمز رسام ليحمل فأسه ويحفر تحت تلك الأرض باحثاً عن كنوز أجداده وجذورهم الخضر متحدياً التاريخ.
ففي عام 612 قبل الميلاد، كما تخبرنا الرقيمات والنقوش، سويت الدولة الآشورية بالأرض وطمرت تحت التراب على أيدي جيوش البابليين، وغدت أرضهم الخصبة قبراً شاسعاً لأغنى دولة في العالم.. لكن بعد نحو ثلاثة آلاف عام عثر ذلك الكلداني، الآشوري الدؤوب، تحت تراب أجداده على أعظم ملحمة شعرية تعود نسختها إلى مكتبة الملك آشور بانيبال المطمورة تحت الأرض، مع من، وما، طُمر هي ملحمة كلكامش.
لم يكن رسام، آنذاك، سوى فتى موهوب لم يبلغ العشرين من عمره، عندما تشاء الصدفة (الأسطورية أيضاً!) ليلتقي عام 1845 آثارياً بريطانياً، في الموصل، اسمه أوستن هنري لايارد ليغير حياته إلى الأبد وليصبح الآثاري العراقي الأول في منطقة الشرق الأوسط.
إن إنجازات لايارد واكتشافاته، كلها، لم يكن له أن يحققها لولا ذلك الفتى الكلداني، هرمز رسام، حسب اعتراف لايارد نفسه في كتابه "نينوى وآثارها" الذي حقق أعلى المبيعات عند صدوره بعد أربع سنوات من الحفر في منطقة نمرود.
سافر رسام إلى بريطانيا ودرس في أرقى جامعاتها (أوكسفورد) وصار واحداً من نخبتها الذكية ليكتب من هناك إلى صديقه لايارد "أفضل أن أكون منظف مداخن في إنكلترا على أن أكون باشا عثمانياً" – (دانيال سيلاس آدامسونبي، بي بي سي ماغازين).
بعد تقاعد لايارد تولى رسام مهمة التنقيب في مسقط رأسه، بمفرده، لكن كموظف رفيع في بلده الجديد بريطانيا.
كان رسام اليد اليمنى للايارد، ولم يكن مترجمه الخاص فقط، إنما كان مساعده في تسيير شؤون اكتشافاته عند التعامل مع القرويين أو المتنفذين في المنطقة، بل كان حاميه أيضاً، حيث عيون العثمانيين ورقابتهم على نشاط بريطاني يحفر في أرض مملكتهم ليكتشف الكنوز.
يقول آدامسونبي: "كان رسام هو الشخص الذي عرف كيف يمكن التفاوض مع شيخ قبلي وكيفية رشوة حاكم محلي بهدية من القهوة وكيفية استئجار 300 عامل لجر تمثال ضخم لثور مجنح إلى نهر دجلة وتعويمه على مجموعة كبيرة من الألواح الخشبية وقِرَب جلد الماعز المنفوخة".
إنني أرى الآن عيني هرمز رسام وهما تلمعان لفرط البهجة كلما عثر على رقيم ناقص أو لوح مكسور وأرى يديه المعفرتين بتراب أجداده النقي وأتألم، معه، بسبب أوجاع ظهره الحاني على الأرض وهو ينبشها لينقلها ويعمل على حفظها كتراث إنساني في بلد يبعد آلاف الكيلومترات عن الموصل العراقية.. إنني أتلمس مواضع أصابعه على كل سنتمتر في الآثار السومرية كلما زرت الجناح العراقي في المتحف البريطاني.
يتبع الجزء الثاني