مَن يدرس الدراما العراقية منذ بداية نشأتها في نهاية الستينيات وحتى يومنا هذا سيجد أنها مرَّت بمراحل مـد وجزر وهي كنشاط إبداعي تكون عرضة للمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها البلد فحينما تكون متألقة تترك اثراً طيباً في نفوس مشاهديها
مَن يدرس الدراما العراقية منذ بداية نشأتها في نهاية الستينيات وحتى يومنا هذا سيجد أنها مرَّت بمراحل مـد وجزر وهي كنشاط إبداعي تكون عرضة للمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها البلد فحينما تكون متألقة تترك اثراً طيباً في نفوس مشاهديها، وتارة تدخل بقطيعة مع المشاهد حتى ان مجرد ذكر دراما عراقية تثير لديه القرف والألم ، هذا ليس في الجانب الدرامي ، بل في كل نواحي الحياة وغالبا ما يكون ماضي الحياة العراقية وانشطتها الثقافية والفنية افضل من حاضرها فالزمن الذي انتج تحت موسى الحلاق وفتاة في العشرين والنسر وعيون المدينة واعمال ابداعية كثيرة هو ليس كهذا الزمن الجديد ، فقد بقيت تلك الاعمال خالدة في ذاكرة العراقيين برغم فقر أدوات انتاجها ولكنها كانت صادقة ليس في تنفيذها تأليفاً واخراجاً وأداء ممثلين، بل لأنها لامست جرح العراقي ومعاناته ، علماً ليس هناك مَن عمل ما بعد التغيير في عام 2003 بقي حياً وسحب الأضواء إليه يظهر نمط الحياة الجديدة بكل تداعياتها واخفاقاتها، بل العكس فان الكثير من الاعمال الجديدة تحاول تقليد تلك الاعمال القديمة وسرقة الألق منها لأن الجميع يعلم بأن تلك الاعمال حية لا تموت وشكلت في السابق ولحاضرنا وحتى للمستقبل فناً اسمه الدراما العراقية.
المشتغلون في الوسط الفني يعرفون جيداً أن النص او ما يطلق عليه الفنيون (الورق) هو الحلقة المهمة في الانتاج الدرامي ويعطى له ثلاث درجات في حين ان الانتاج والاخراج والأداء الفني تعطى لكل منهم درجة واحدة . والمعروف ان كتـّاب الدراما في العراق معروفون لدى الجميع فهم لا يتجاوزون اصابع اليدين واغلبهم درس فن السيناريو اكاديمياً وقليل جدا من جاء من عالم الادب قاصاً او روائياً ،الكثير منهم من رواد هذا الفن الابداعي منذ عقود مضت وما زال حتى يومنا هذا تُرفد الدراما بنصوص لهم ، اما الجيل الجديد فلم تظهر الى السطح منه سوى مجموعة بسيطة من كتاب السيناريو رفدوا الشاشة الفضية بنصوص اعمال تلفزيونية التي كانت تتأرجح بين الجيد والعادي وحتى السيء والجميع لم يستطع ان يأخذ بيد الدراما العراقية نحو الرقي والازدهار بحيث تدخل السوق منافسة للاعمال المصرية والسورية والخليجية..احدى المشاكل الرئيسة في عدم تطور الدراما العراقية هي في الكاتب الدرامي نفسه او ما يُسمى بالسينارست ، فهذا المبدع الذي يصوغ ابداعيا النص الدرامي لم يطور أدواته الفكرية بشكل جيد بحيث تتلاءم مع التغييرات المفجعة التي حصلت في العراق ، ما زالت الصورة لديه ضبابية وغائمة ، كما ان انقطاعه عن الواقع سواء السفر الدائم او العيش في أحد البلدان العربية او الاجنبية او الجلوس في البرج العاجي والنظر الى ما يحصل من امور من فوق وعدم انغماسه في صلب المشكلة والمساهمة في حل عقدها وقصور عدته الثقافية بحيث يصبح بامكانه ان يفكك الواقع ويعيد تركيبة ابداعياً بأحداث زمنية وبأمكنة مصاغة دراميا يشرك المواطن في صياغة حاضره ومستقبله ، كل ما عمله هذا الكاتب ان ينظر الى سطح الظواهر وليس الى بواطنها فأعاد تصوير الفوتوغرافي للواقع المخرب من جديد ، ارهاب وقتل مجاني ، فساد مالي ، ظواهر سياسية واجتماعية واخلاقية شاذة ، كل هذا خلق ردة فعل نفسية لدى المشاهد، فبدل ان يُعيد الكاتب تجسيد المشاكل الاجتماعية والوجودية بطريقة فنية جمالية ترفع من ذائقة المشاهد من خلال افتراض واقع ثانٍ محايد ،نقل الواقع العراقي بكل سلبياته ونكوصه وبشاعته حرفيا الى الشاشة ،عليه ان يهذب ذائقة المشاهد لكنه عمد الى تخريب التلقي وغرس السلوكيات المرضية في نفسه بابتكار وسائل غريبة من العنف وتحريض المشاهد على تقليد الممثل البطل في بهلوانية ارتكابه للجريمة ، بل يتعداه الى ما هو أفظع وتلقينه الطرق في كيفية التفافه حول القانون .
لقد تغيرت رسالة الفن من اسلوب للعيش الجميل وكابح للقبح اصبح وسيلة في تنفيذه واشاعته اجتماعيا..الغريب في الامر ان الكتّاب الذين كتبوا اعمالا ناجحة في بداية حياتهم الابداعية والفنية وقطعوا اشواطاً مع الآخرين بتأسيس الدراما العراقية في اعمال لا تنسى امتازت بوضوحها الفكري ومهارة فائقة في تناول المشاكل الاجتماعية التي تعصف بالحياة العراقية آنذاك ومعالجتها ابداعياً وتحريض المواطن في ان يكون فاعلا في التصدي لكل المصاعب التي تعترض حياته ،هؤلاء الكتّاب اليوم غير قادرين على تصوير المحنة العراقية في دوافعها وجزيئاتها الصغيرة وما ستؤول اليه الامور في المستقبل القريب او البعيد وكل الذي عملوه هو نقل الصراع الذي كان في مجمله فكريا ووجوديا بين قوى الظلام والنور وبين الحداثة والسلفية وبين وجود العراق وعدمه ،بكل حيثياته وبطريقة فجـّة واللهاث وراء النتيجة من دون معرفة السبب وتصويرها في لقطات اكشن سريعة ومغامرات لأبطال خارقين رجالا ونساءً ليخلقوا المتعة السريعة والآنية لدى المشاهد التي تنطفىء قبل ان تنتهي الحلقة التلفزيونية ومحاولة الابتعاد قدر الامكان عن مناقشة كل ما هو فكري باعتبار ان الافكار والعقائد في هذا الزمن مضيعة للوقت ولا تجلب للمشاهد إلا وجع الرأس..انها حقا ازمة فكر يعاني منها المجتمع العراقي ومن ضمنه كُتاب السيناريو ، فبقدر ما كان فكر الكاتب واضحا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ساعده على كتابة اعمال راقية ، نراه اليوم وهو ضمن فوضى هذا المجتمع غير قادر على الامساك بعصب المشكلة من اجل تتبعه واطفاء جذوة الألم واشعال الفرح والأمل في النفوس ، لان الواقع المخرب ينتج افكارا مشوشة ليس عند الكتاب فقط ، بل في عقول معظم فئات المجتمع العراقي..لقد قالها الفلاسفة ان انحطاط الأدب والفن في امة يعني انحطاط الامة وهذا يتطلب من الكتاب مراجعة دفاترهم الفكرية وتأمل الظواهر الاجتماعية والكونية ودراسة طبيعة المجتمع والشخصية العراقية فكل ما حصل هي تراكمات دمار كمي هائل خلقت هذا التغيير النوعي الكارثي في مجمل مفاصل الحياة..ما تعانيه الدراما العراقية ايضا غياب الناقد الموجه للاعمال الفنية ، كانت الساحة الفنية في السبعينيات والثمانينيات تعج بنقاد الدراما الذين كانوا يضعون النقاط على الحروف وتصحيح الاعوجاج في النصوص وتصويب رؤية الكاتب ان حصل فيها غفلة او شطط ، اليوم لم يشخص لدينا ناقد درامي واحد يتابع ما يعرض من اعمال تلفزيونية ويضبط مقاصد الكاتب وتأويلاته كما الفرضة والشعيرة من اجل تقريب التفاهم بين الكاتب والمشاهد ، كما ان غياب هذا الناقد في معظم لجان فحص النصوص في القنوات الفضائية سهل من انتاج النصوص الرديئة والكل يعلم أن ما هو سائد هذه الايام في اختيار النصوص الاخوانيات والجلسات الخاصة والعمولات المجزية مما تسبب في تراجع الواقع الدرامي بعد ان تداخل الغث بالسمين واختلط الحابل بالنابل ..ان مسؤولي الدراما في كل القنوات الفضائية غالبا ما يكونون من خارج الوسط الفني ، كما ان نجاح الاعمال الدارمية او فشلها امر لا يعنيهم لا من قريب او بعيد لأنه لو كان الامر عكس ذلك لحاولوا تصحيح الخطأ الذي وقعوا فيه في أي عمل ، كما ان القنوات الفضائية التي تنفق المليارات من الدنانير لانتاج الدراما وخاصة قناة العراقية الفضائية ،لم تفكر ان تقيم ندوات نقدية بعد كل عمل درامي جديد يعرض لديها يتم مناقشة نجاح او اخفاقات هذا العمل سواء ما يخص النص او الاخراج او الانتاج او اداء الممثلين. وكلنا يتذكر برنامج السينما والناس الذي كانت تعده وتقدمه السيدة اعتقال الطائي في سبعينيات القرن الماضي وكيف كانت تستضيف الادباء والفنانين والنقاد في تسليط الضوء على الفيلم قبل عرضه ، فلماذا لا يتم هذا الامر وبصياغة جديدة مع الدراما التلفزيونية وحتما سينال هذا الأمر استحسان المشاهد العراقي؟
واقع الدراما العراقية كواقع السياسة مليء بالتناقضات والفوضى والصدف، المواطن يحتاج الى نصوص درامية تحكي عن معاناته وأفق مستقبله المظلم بتناول موضوعي وبطرق اخراجية مميزة وبانتاج راقٍ تسحبه الى شرنقتها وكي لا يضطر الى ملاحقة المسلسلات التركية والاجنبية المدبلجة وحتى المسلسلات العربية مصرية او سورية او خليجية.