-1-الفن ، بحسب خلاصتي ، ليس دينا ، وليس بديلا عن الدين .
ليس الفن خطابا فلسفيا معرفيا ، وليس بديلا عن الفلسفة ، والفن ليس علما ، وليس من الحكمة ان نفكر على انه كذلك . الفن ببساطة هو الفن ، ذلك البعد الوجودي الفريد الذي يتدخل في تشكيل طبيعة الانسان ع
-1-
الفن ، بحسب خلاصتي ، ليس دينا ، وليس بديلا عن الدين .
ليس الفن خطابا فلسفيا معرفيا ، وليس بديلا عن الفلسفة ، والفن ليس علما ، وليس من الحكمة ان نفكر على انه كذلك .
الفن ببساطة هو الفن ، ذلك البعد الوجودي الفريد الذي يتدخل في تشكيل طبيعة الانسان على كوكبنا ، ذلك البعد الضروري لهذه الطبيعة ، والذي بدونه حتما سيكون الانسان مخلوقا اخر ، يحمل الكثير من الشر الذي لم نتعرف عليه بعد . سيكون اي شيء عدا ان يكون هذا (الانسان) الذي نعرفه .
لذلك كلما توغلنا في البحث عن الانسان في التاريخ صادفنا الفن . ولان (التشكيل) هو الفن الذي يترك اثاره على الوجودات المادية ، وجدنا التشكيل منقوشا على جدار الزمن .
من هنا يتعذر علينا ان نروي قصة الانسان ، دون ان نتحدث عن قصة نتاجه الفني ايضا .
اذا كان الدين يقدم على الدوام كهنة وأنبياء ومتنبئين ، والفلسفة تقدم فلاسفة و متشوفين ، والعلم يقدم علماء ومتخصصين ، فان الفن يقدم فنانين .
الفنان هنا هو رسول الجمال الى الانسانية ، مهمته الحصرية هي الوساطة بين الجمال المطلق والناس ، انه يتلقى الوحي من سماوات الإبداع والخلق الجمالي ثم يبثها في الوجود .
لا يطمح الفنان في مسيرته الإبداعية الى إقامة دولة جمالية ، ولا تأسيس مجتمع متجانس ، ولا تشكيل حزب من الفنانين ، ياتي الفنان الى العالم فردا وحيدا متفردا ، ويغادر العالم فردا وحيدا متفردا .
كلما انغمس الفنان بمشكلات الواقع ، يكون قد ابتعد عن مركز رسالته ، عن جوهر وجوده ، عن فرادته ، عن رعاية آلهات الجمال والهامهنّ .
نعم ، ان مادة الفنان هي الواقع والمُتَخيّل ، ولكنه يعاملهما في كيفية غير واقعية تماماً ، وحتى الفن الواقعي او الفوق واقعي super realism هو في المحصلة يختفي لصالح هذه الكيفية ، لشروطها التي تذهب به من الواقع الى الجمال .
كثيرا ما يتورط الفن بالدين ، بالفلسفة ، بالعلم حتى ، كثيرا ما ينغمس بشدة في الواقع ، ولكنه يعود من هذه الانغماسات والمغامرات بنتائج لا تنتمي اليها ، يعود الى الجمال ليحتمي به من اللغة ، اللغة عدوة الفن الاولى ومصدر إزعاجه المزمن .
الفن ، مثل الزمن والفراغ ، هو معطى قبلي للوجود ، الفنان لم يتدخل في إمكانية تحقق هذا المعطى ، هو فقط يدل عليه .
ما نسميه "تاريخ الفن " ، هو تاريخ ما تحصلنا عليه ممارسات فنية ، ليس بالضروة هي كل تاريخ هذا الفن .
الفنان مثل النبي ، مثل العالم ، يُتهم بالسحر والجنون والانخطاف والتلبس وأحيانا بتخريب العقائد وانتهاك الخطوط الحمر .
لدينا رسومات من العصر الحجري ( 1000-40000) ق. م ، وهو من اقدم العصور التي تأكد لنا من وجود الانسان الحديث فيها ، حين كان يسكن الكهوف ويترك على جدرانها خطوطه وكذلك منحوتاته على شكل حيوانات ، هي مادة فنان مجتمع الصيد والطرائد والتي غالبا ما جرى تأويلها من قبل الاركلوجيين بوصفها مجرد تعويذات لجلب الحظ في عمليات الصيد . وهي محض تأويلات لا تقوم على أسس علمية .
جاءت نهاية العصر الجليدي ، والتغييرات الكبرى التي شهدها على مستوى المناخ والثقافة ، لتعلن انتهاء مجتمعات عصر الصيد في اوروبا ، ترك لنا الانسان خطوطه والتي هي هذه المرة - في الأغلب - على هيئة نساء يمثلن الخصوبة كما تأوُّل علماء الحفريات وقراء طالع التاريخ .
في العصر الحجري الحديث ، اي في الفترة منذ العام 9000 ق.م ، ظهر الشرق الاوسط على مسرح التاريخ ، الانسان الذي عاش في حوض دجلة والفرات ، تعرف على الحبوب والأعشاب البرية ، وتمكن من تدجين الخراف والماعز ، تلك الانتقالة العظمى في تاريخ اُسلوب حياة البشرية ، حيث التساكن والاستيطان لأغراض الزراعة . تم تطوير المدن الصغيرة وأماكن العبادة في جنوب بلاد ما بين النهرين ( 4500) ق. م . لتبزغ شمس الحضارة السومرية بعد ذلك بالف عام . كذلك هو حال الثقافات التي ظهرت في وادي النيل والصين .
الأهوار الغنية الواقعة ما بين دجلة والفرات قدمت محاصيلها الوفيرة ، بعد ان تعلم السومري شق القنوات وبناء السدود ، لتنهض في هذا المكان حضارة عمرانية غير مسبوقة ، شكلت نظما ادارية وسياسية واقتصادية ودينية ومراكز ثقافية مهمة .
يمكننا براحة ضمير ان نعد السومريين هم اول من اخترع العجلة والمحراث والعربة وقبل كل هذا انهم اخترعوا الكتابة .
تماثيل التعبد ، والمسلات التي تظهر عليها مشاهد تشخيصية وقصص كانت قد ظهرت نحو العام 3000 ق. م . كما ظهرت تماثيل الملوك بوصفهم أبناء الآلهة خلال الفترة ذاتها . وتناوبت الحضارت الأكدية والآشورية والبابلية في الظهور في هذا الوادي الخصيب . وخلد ملوكها بالنصب والتماثيل التي عرفناهم من خلالها .
الصين في فترة حكم أسرة شانغ ، شهدت ذروة نضجها الحضاري وذلك في القرن الثاني قبل الميلاد ، متحصنة بعزلتها ضد التأثيرات الخارجية ، لتطور فنا خاصا وفريدا لمدة 4000 سنة ، والذي تشهد له الزهريات البرونزية المزخرفة ، وأعمال الحرير والاف المكتشفات من تماثيل المحاربين والخيول التي امر بتنفيذها الإمبراطور تشين الاول .
تمثال الإمبراطور زوسر يؤشر لنا بداية النحت في المملكة القديمة للمصريين نحو العام 2600 ق. م .
مقابر الفراعنة الذين جرى التعامل معهم كآلهة ، تم تشييدها وتزيينها بفخامة غير مسبوقة في التاريخ . حيث ان إيمانهم بحياة ما بعد الموت ، ساعد كثيرا في ظهور فن عظيم يحافظ على نمط حياتهم لفترات طويلة .
عبر القرون ، العوائل المصرية الحاكمة في الممالك القديمة والمتوسطة والجديدة ، شجعت على ظهور منحوتات ورسوم وحفريات غير محدودة القيمة والأثر .
استحوذت جزيرة كريك في العهد المينوي على لقب اول حضارة أوروبية ، تؤسس شخصية ثقافية وفنية مستقلة عن التأثيرات الشرقية ، وبخاصة المصرية منها ، والتي ورث عنها الأمراء القادمون من بحر ايجة واستوطنوا اليونان ، كل تراث المينويين السياسي والثقافي والفني . ولكنهم تواروا فجاة من على مسرح الأحداث نحو العام 1500 ق.م وبذلك كانت بداية الانحدار الحاد في الثقافة اليونانية نحو ما بات يعرف بالعصور المظلمة ، بعد ان تم حرق قصور النخب وضياع ممتلكاتهم في أتون تلك النيران .
من هذه الانوجادات البشرية ، ومن تلك الحضارات اللامعة في التاريخ تحصلنا على عدد كبير من تلك الاعمال الفنية ، التي اصبحت رموزا انسانية يعرفها اغلب سكان الكوكب ، فينوس الولندروفية ، ذلك التمثال الغريب لأول امراة تبزغ من الماضي وتطل علينا بتقاطيع جسدها المترهل ، ليمثل نموذج الخصوبة والتي تم اكتشافها عام 1908 جنوب النمسا ، ويقدر العلماء الى انها تعود الى الفترة 22000 - 24000 ق.م .
ما اروع جدنا الانسان المفكر بتلك الجلسة المعبرة ، وهو يسند يديه الى خديه متأملا الوجود ، والذي يمثله التمثال البالغ الجمال ( مفكر من سيرنافودا) حيث تم اكتشافه في منخفض نهر الدانوب في رومانيا ويقدر عمره بـ 12 الف سنة .
وقبل ذلك تلك الرسومات الكهوفية النادرة للخيول البرية والثيران ، التي توزعت بين فرنسا وإسبانيا وإفريقيا ..
الملك كوديا وتلك الانتصابة المهيبة منذ اكثر من ثلاثة الاف سنة ، والتي يخصها زوار اللوفر بالكثير من الاهتمام والتبجيل لتلك العبقرية الرافدينية .
الثور المجنح الذي يعود تنفيذه الى العام 729 ق. م حيث يحرس بوابات سرجون الثاني ، والذي ذبحه الاوباش هذا العام ، في مجزرة ثقافية جرحت وجدان العالم اجمع .
بوابة عشتار ومسلة حمورابي وسواها من الإثار الخالدة لفنون بلاد مابين النهرين ، شاهد على ارتباط انسان الحضارات بالفن كبعد وجودي لا يمكن تخيل الحياة دونه .
في حوض النيل كتب المصريون قصة نادرة للفن ، قصة لم يعرف التاريخ مثيلا لها لناحية عبقرية الأداء وكمية المنتوجات المذهلة ، من نَفَرتيتي لغز البشرية المحير ومشاهد صيد الطيور ( الفريسكو ) الخالد على جدران التاريخ والذي يعود للعام 1375 ق.م .
ريليف حلب البقرة الذي يعود للعام 2347 ق. م يقص علينا مشهدا من الحياة الريفية لحوض النيل .
في الصين ، من تلك الحضارة المنعزلة يقف وعاء النبيذ بقوائمه الثلاثة ، وطبل الحرب الذي يعود للفترة 481 - 770 ق.م . وكذلك الكلب بذنبه الصغير الملتوي من العام 141 ق.م . وأخيرا تلك المجسمات الجميلة لجيش الإمبراطور من العام 207 - 221 ق.م .
لا يمكن الحديث عن فنون ما قبل التاريخ ، دون التوقف طويلا عند تلك التصاوير المرمرية التي خلفتها لنا الحضارة المينونية قبل ألفي سنة من الميلاد ، وكذلك الاعمال البرونزية من وسط اوربا ، انها حقاً جزء مهم من تلك القصة العظيمة للفن ، التي كتبها الانسان على وجه الطبيعة . الملاكمان الشابان من جزيرة سانتوريني ، ومشهد النهر ، اول (فريسكو) يمثل مشهدا طبيعيا . عربة الشمس من تراندهولم من القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، ذلك العمل التعبيري الخالد والقبعات الاربع الذهبية من وسط اوربا وسواها من فرادات الاعمال التي تخص ذاكرة الانسانية اجمع .