يتوق المعمار، اي معمار، ان يكون مبناه المصمم من قبله مستوفياً لمتطلبات وظائفة بصورة كفوءة، وان تكون تلك الوظائف متحققة ضمن مستويات جمالية عالية، مضافاً اليها تحقيق المتعة المتأصلة النابعة من توزيع فراغاته. كما يسعى ان يكون ذلك المبنى، إضافة مميزة الى
يتوق المعمار، اي معمار، ان يكون مبناه المصمم من قبله مستوفياً لمتطلبات وظائفة بصورة كفوءة، وان تكون تلك الوظائف متحققة ضمن مستويات جمالية عالية، مضافاً اليها تحقيق المتعة المتأصلة النابعة من توزيع فراغاته. كما يسعى ان يكون ذلك المبنى، إضافة مميزة الى البئية المبنية التى ينهض فيها، وان يكون، ايضا، نقطة جذب في مفردات بانوراما المكان. لكن المعمار، اي معمار، يود ان يضفي على مبناه، بالاضافة الى كل ذلك، شيئاً آخراً، مقصداً آخراً، قد لا يكون حضوره أمراً موجباً ضمن متطلبات التصميم المباشرة. انا اعني ذلك "القبَس" الداخلي، ذلك الشعور "الجواني"، الذي يتولد عن طموحات المعمار المهنية، هو الذي يبرز فجأة، ليشكل جزءا من القرارات التصميمية، مضفياً نكهة متفردة على عمارة المبنى. أكاد أجزم، ان كثيراً من المباني المهمة، والرصينة والجميلة، التى عُدت حدثاً معمارياً في النسيج الحضري لمدن كثيرة، كان حضور ذلك العامل الإضافي، العامل المستتر والمخفي، شرطا أساسياً لجهة أضفاء نوعا من الالق والتميز على عمارة تلك المباني "الإيقونية". ومبنانا: مبنى هذه الحلقة الجديدة من زاوية "عمارة..عمارة"، مبنى <المحطة العالمية للقطارات> بالكرخ (1947-1952)، احد نماذج تلك المباني العاكسة بعمارتها الفذة طموحات مصممها المجتهد " جيمس موليسون ويلسون" (1887- 1965) J. M. Wilson.
تثير نوعية مقياس Scale المبنى المصطفي لعمارة المحطة مع طبيعة مقاساتها، تساؤلات مشروعه، عن جدوى وفائدة ذلك الاستخدام، الذي طمح المعمار من خلالهما ان يرتقي بمبناه ليكون حدثا تصميميا اسثنائيا في المخطط الحضري، وجعله، ايضاً، يتصدر قائمة اضخم المباني المشيدة، وقتذاك، في عموم المملكة العراقية. فهو بضخامته تلك لا يجاريه اي من المباني المشيدة، لا البلاط الملكي، ولا مبنى رئاسة الوزراء في القشلة، ولا حتى قصر الزهور الملكي، الذي بدا حجمه متواضعا مقارنة معه، بل ان الميناء الجوي لمطار بغداد القريب منه لا يماثله في وسعه واهميتة الحضرية. ثمة تضخيم متعمد لعناصر المبنى التصميمية من قبل المعمار يمكن الاحساس به بوضوح. والتساؤل المنطقي، لماذا حظي المبنى بمثل هذا النوع من الاهتمام التصميمي والعناية الحضرية؟ لماذا لجأ المعمار الى صيغة هذه المقاربة التكوينية تحديداً؟ فـ "قطارات" المحطة لم تكن خطوطها كثيرة ومتنوعة، وهي، كواسطة نقل، لم تكن رائجة كثيرا او مفضلة شعبيا.
لماذا؟ ـ لان المعمار اراد ان يكون مبنى المحطة، بمثابة "رجع صدى" لطموحاته المعمارية الشخصية، تلك الطموحات التى حاول تحقيقها في مبانٍ عديدة بالعراق، كُلف في اعداد تصاميمها، لكنه لم يقتنع، بانها حققت طموحاته المهنية، رغم نجاحاتها التصميمية، الا في هذا المبنى: مبنى المحطة العالمية للقطارات. لنتذكر بدايات عمله في العراق، منذ مبنى "مستشفى مود التذكاري" بالبصرة (1921-22)، ومخطط جامعة آل البيت في بغداد (1922-24)، ومبنى الصرح المركزي فيها <لم ينفذ> ثم قصر الملك فيصل على نهر دجلة ببغداد (1927) <لم ينفذ>، ومبنى الموانئ بالبصرة (1925-27). في جميع تلك التصاميم تحضر اصداء تلك الطموحات، بيد انها جميعاً لم تكن مقنعة له ومرضية لرغباته تلك. لكن ماهي طبيعة تلك "الطموحات" الشاغلة بال معمارنا؟ يعود تاريخ "المسألة" الى فترة اشتغال ويلسون بالهند، كمساعد الى استاذه المعمار الانكليزي الشهير "ادوين لاجنس" Edwin Lutyens، عندما شرع الاخير في اعداد تخطيطات "نيو دلهي" كعاصمة جديدة للهند (ابتداء من 1911 ولغاية 1931)، وعمل تصاميم لمبانيها المهمة، وفي الاخص اشتغال ويلسون على تصاميم مبنى "نائب الملك" فيها (الذي سيصبح لاحقا مقرا لرئيس جمهورية الهند). في ذلك المبنى، الذي اعتبر من كنوز ابداعات "لاجنس" المعمارية، كان وقع تأثيراته التصميمية على المعمار الشاب عميقة وقوية. واحتفظ ويلسون منذ ذلك الوقت بـ "اميج" القصر، لجرأته التكوينية وجمالياته المترفة، الغنية بعناصرها التصميمية ورهافة التفصيل. وظلت تلك الامنية ملازمة لويلسون طيلة مسيرته المهنية، متقصياً عن فرصة ملائمة، يعيد بها تنفيذ صورة تلك العمارة المؤثرة التى اجترحها يوما ما استاذه القدير.
تشير المخططات التى اطلعت، شخصياً، عليها من ارشيف مكتب المعمار، بان مبنى المحطة صُمم ليكون بمنزلة النقطة المحورية Focal Point ، لجادة عريضة، سيخطط لها تمتد من نهر دجلة جنوبا باتجاه مبنى المحطة اياها شمالا. وعندها (عند المحطة) سيخلق ميدان فسيح، ينهي استمرارية تلك الجادة "باصطدامها" بالنقطة المركزية التى ستمثلها مبنى المحطة. والمعالجة المعمارية للمبنى، اخذت في نظر الاعتبار خصوصية موقعه المستقبلي ضمن مفردات التخطيط الحضري المنوي تنفيذه. كما استطاع المعمار ان يقنع رب العمل في ان تكون ابعاد ومقاييس المشروع المصمم، بنفس ما كان "يخطط" له ويلسون منذ فترة طويلة. وهو ما حصل: مبنى بابعاد واحياز وظيفية وخدمية لم تعرفها بيئة بغداد المبنية! لكن الاهم في ذلك، هو ان المبنى استطاع، اخيراً، ان يلبي تلك الطموحات الدفينة، مضيفا، مع هذا، لعمارة العاصمة واحدا من اجمل مبانيها.
اختار المعمار الصيغة التماثلية للحل التكويني لمبناه لاعتبارات شتى. فهذة الصيغة التكوينية اثيرة لديه، هو الذي تربى وفق قيم الذائقة الكلاسيكية الجديدة ومبادئها، كما انها تماثل نوعية تكوينات مبنى "نائب الملك" بالهند، الذي يستحضر المعمار "اميجه" التصميمي هنا، فضلاً على ان خصوصية موقع المبنى الحضري، كغالق لذلك "الافينيو" الفسيح والجديد في تخطيط كرخ بغداد، تتطلب مركزية عالية، توفرها مثل تلك المداخلة التصميمية. واذ يستخدم المعمار "الطابوق" البغدادي، كمادة انشائية اساسية للمحطة، فانه بهذا يقدم درساً مهنياً عالياً للمعماريين المحليين عن تطبيقات تلك المادة المحببة لديه ..ايضاً، مع امكانية استنزاف خصائصها الانشائية، لجهة زيادة ابراز القيم الجمالية لمبناه. فهذا الاستخدام المترع بالصفات المهنية العالية، والعارف بعمق حرفية الصنعة، لهو اضافة معرفية جديدة لتوظيفات تلك المادة التى عرفها العراقيون عن كثب، ولطالما اعتبروها بمثابة مادة انشائية وطنية، مألوفة ومحببة لديهم.
ينزع المعمار ان يكون الجزء الوسطي في مبناه، حافلا بعناصر تصميمية مؤثرة. ولهذا فانه حريص ان يستخدم عناصر تصميمية متنوعة، بمقدورها ان ترتقي به ليكون "بؤرة" التركيز البصري، متلائماً بذلك مع خصوصية عمارة المبنى وميزته العمرانية. واذا كانت خاصية الامتدادات الجانبية لهذا القسم، تتسم بالافقية، فانها في جزئها الوسطي تغدو عمودية، من خلال أعمدة رواق Portico المدخل الرشيقة العالية، ذات التيجان المميزة. بالاضافة الى "مرابطة" البرجين العاليين اللذين يحددان المنطقة الوسطية، ويشيران الى اهميتها. كما يتعين ان لا ننسى حضور القبة المميز، والتي تظهر خلف المدخل، مثرية بشكلها ولونها اللازوردي الازرق تنويعات هذا الجزء من الواجهة. في الداخل، عند "انترير" القاعة المركزية للمحطة، تسود التقطيعات العمودية في معالجة الفضاء الداخلي. ثمة تجويفات عديدة يرسمها المعمار على محيط المخطط الدائري. واضعاً امامها زوجين من الاعمدة الرشيقة، تشبه الى حد كبير اعمدة رواق المدخل الخارجي. وتفصل بينهما كتل آجرية مصمتة، موزعة هي الاخرى على ذلك المحيط الدائري، وتعمل عمل دعامة إضافية، تحمل "عتبة" خرسانية تنهض عليها القبة وطبلتها. وهذا الفضاء الداخلي، هو الفضاء الاهم في التصميم، حيث يحتشد المسافرون ومودعونهم ومستقبلونهم هنا في هذا الحيز، ذي الارتفاع العالي، الذي حرص المعمار الاعتناء به تصميميا وتشكيلاً، مضفياً عليه مناخا لونيا بهيجا، وانارة مميزة "تنسكب" من نوافذ علوبة موجودة في طبلة القبة. بالطبع يبقى التفصيل، التفصيل الماهر الذي وظفه المعمار في مناطق عديدة من العناصر التصميمية في مبناه، يبقى يدلل على ثقافة المعمار المهنية العالية، ومقدرته على رسمها بتلك الصيغة الحاذقة التى تبهر مشاهديها.
واخيراً، فان عمارة مبنى المحطة العالمية، تظل تعتبر من الاحداث المعمارية المهمة في منتج عمارة الحداثة البغدادية والعراقية بشكل عام. انها، ولا بأس من التكرار، بمقياسها المختار وابعادها الفسيحة واللغة المعمارية المصطفاة، بالاضافة الى تنويعات استخدام الآجر فيها، تبقى تمثل احدى "ايقونات" بغداد البصرية ..والمعمارية. لكننا نعرف، ايضاً، بان ذلك المبنى "الجليل" (وليس عندي مفردة اخرى غيرها، بمقدورها، بصدق، ان توصف عمارته)، كان يمكن لتأثيراته المعمارية والعمرانية، ان تكون اكثر وقعا وتاثيرا، لو ان "الجادة" اياها، تم تخطيطها ضمن المقترح الذي قدمه المعمار. ذلك لان "موقعها" (موقع الجادة)، قد تمت ازاحته غرباً (ليشكل لاحقاً شارع 14 تموز الحالي)، بحيث، اضحى مروره، يتخطى جنب المبنى، ما افقد رؤية المبنى "الجليل" بالصيغة التى تمناها المعمار، هو الذي اشتغل كثيرا بان تتأتى معالجاته المعمارية والحضرية، وفقا لتلك التمنيات، المشكلة جزءا من ...تلك الطموحات المعمارية، التى لم تتحقق بالكامل!
و"جيمس موليسون ويلسون" معمار المبنى، ولد في 28 نيسان، عام 1887، في مدينة "دندي" بإسكتلندا في المملكة المتحدة. انهى تدربيه المعماري في مكتب محلي لمدة خمس سنوات، ثم عمل ، لاحقا، مع مكتب استشاري لندني. في سنة 1908، رافق المعمار الانكليزي المعروف" لاجنس" الى الهند، وبات ، حينذاك، احد معاونيه الاساسيين في تخطيط "مدينة نيو دلهي" وفي تصميم مبانيها المهمة. انضم الى القوات الانكليزية التى دخلت العراق، وعين سنة 1918، مديرا لدائرة الاشغال العمومية التى رأسها لحين رجوعه الى بلده بريطانيا سنة 1926. صمم كثيرا من المباني المهمة، التى اعتبرت عمارتها، كنماذج مؤسسة لعمارة الحداثة بالعراق؛ منها "جامعة آل البيت" في الاعظمية ببغداد، 1922-24، ونادي العلوية (بطلب من مس غروترد بل)، ببغداد، عام 1921. وقصر الملك فيصل الاول (لم ينفذ) 1927، ومبنى الموانئ بالبصرة (1925-27)، والميناء الجوي ببغداد (مطار المثنى) 1931، (بالاشتراك مع ميسون)، وكنيسة سان جورج في كرادة مريم (1936)، ومحطة قطار الموصل (1938)، و"مطار البصرة الدولي (بالاشتراك مع ميسون) 1938"، وغير ذلك من المشاريع المهمة.
معمار وأكاديمي
جميع التعليقات 2
ahmed rasheed
كعهدنا به وبإسلوبه الرقيق في الكتابه يتحفنا بهذه المقاله عن واحد من أجمل مباني العراق.........تحية للدكتور خال السلطاني
علاء مهدي
موضوع شيق ، كثيرا ماكنت أفكر بالبحث عن معلومات تأريخية عن هذه البناية التي كنت أمر من أمامها مرتين كل يوم طوال سنوات طويلة. شكرا للدكتور السلطاني. مودتي