مسألة التوظيف الشعري للافكار ليست جديدة على ادبنا العربي فنحن نجد مقارباتها في "الحِكَم" عند زهير بن أبي سلمى وسواه، والتناول المباشر للافكار عند ابي العلاء المعري وسواه، اما الشعراء اصحاب الدرس من معتزلة وصوفيين، فقد صاغ عدد منهم افكارهم شعراً.
الم
مسألة التوظيف الشعري للافكار ليست جديدة على ادبنا العربي فنحن نجد مقارباتها في "الحِكَم" عند زهير بن أبي سلمى وسواه، والتناول المباشر للافكار عند ابي العلاء المعري وسواه، اما الشعراء اصحاب الدرس من معتزلة وصوفيين، فقد صاغ عدد منهم افكارهم شعراً.
المسألة تبدو حتى الان يسيرة ومعتادة فيما كُتِبَ من ادب ورسائل. لكننا في الشعر الحديث نتجاوز هذه البدايات، او هذا المستوى من توظيف الافكار الى مستوى اكثر تقدماً في الفكر كما في الفن الشعري. ويمكن ان يكون مثالنا الاكثر وضوحاً والاس ستيفنس Wallace Stevens ومجايله وليم بتلر ييتس W.B.Yeats وسابقاه ملتن وبليك، من دون ان ننسى بترارك ودانتي من الايطاليين، إذ نقرأ افكارهما في التاريخ والمجتمع والسياسة فيما كتبوه نثراً كما في قصائدهم.
وفي التأكيد على ولاس ستيفنس يمكن القول: هذا الاهتمام ما فارق تجربته الشعرية من بدئها الى منتهاها. فلا عجب بعد اذا وجدنا ان جميع الدراسات المطولة لشعره، سواء أكان مؤلفوها نقاداً او فينولوجيين، يتتبعون الفلاسفة الذين استمد منهم افكاره او الافكار الفلسفية ذوات التأثير في شعره. وهنا لابد من التأكيد على ان هذا التأثير لم يكن نتيجة عابرة او جاء مجرد عنوانات او موضوعات فلسفية. هو شاعر مثقف متابع مطّلع له افكاره ومشاهداته وتجاربه كما له قراءاته الخاصة. لا يفوتنا أيضاً انه من أكثر الشعراء اصطفاءً للغته وعنايةً كبيرة بها. واذا اردنا وصفه بايجاز نقول: هو شاعر وكتب شعراً حديثاً وصفتُه شاعر هي الأولى ومنها وبها مجدُهُ.
ثمة محاولة لوصف استيفنس بالمفكر. هذه الصفة على مدى الاحترام لها، لكنها تسيء لشعره إساءة بالغة. فهو شاعر فنان قبل كل شيء. والافكار والمضامين الفلسفية تشكل مادة تغذي اشعاره. فلو قدم افكاراً منظومة شعراً، لما رأيناه شاعراً ولوجدنا امثاله كثيرين فيما ورثناه وبين من هم حولنا.
في واحدة من أواخر مقالاته، صرح بوضوح: انه لست مفكراً. وفي هذا دفاع غير مباشر عن شعره وتأكيد على الشعرية وهو يضع كلمة "شاعر" مقابل كلمة "مفكر" المنفية .. هو يهتم بشعرية الافكار. وهذا اهتمام يختلف تماما عن الاهتمام بـ الافكار! هو يتابع ويعنى بجماليات المسعى الفكري لا بأنظمة معرفية أو انثولوجية (ما يخص علم الوجود..)
وهذا التماس جعلنا بازاء العديد من الدراسات التي تقارن بين النصوص الفلسفية الاساس والمصادر من جهة وما ورد في قصائده من جهة أُخرى، حتى ان بعضهم قال بأن شعره واسطة توصيل للافكار التي رآها او ارتآها. وهذه الواسطة تكون احيانا رسائل أو اقوالاً في كتابات كما تجلت في قصائد.
اليقظة أو نوم التأمل
فيها المقاطع العابثة راغبةً
تحمل، في وقت، الاغاني العميقة الغافيات
في رأينا، هذا الاحتجاج لا يغير من جوهر النتيجة الأولى وهي انه: مهتم بشعرية الافكار . وكما ترون انا ما أزال اتحفظ من استعمال تعبير "الافكار الشعرية" الدلالة مختلفة وهي ليست موضوع كلامنا الآن.
نقاد ممن يحبون الفدلكة في الكلام، احدهم افرانك دوجت Frank Dojjet، كتب ان ستيفينس يسوق افكاراً فلسفية. لكنه في الوقت نفسه أثنى على الفن المتقن وجماليات الكتابة في قصائده. آخر وهو توماس هاينس
Thomas J. Hines قال ما معناه انه فيلسوف متخفٍ في اكاليل الشعر ... واضح من القولين خلوهما من العلمية الكاملة. فلا الواسطة يمكن ان تكون فناً حقيقياً راقياً ولا الفيلسوف من غير فن يمكن ان يكون شاعراً مهما وكبيراً فضلا عن الشك بضرورة التخفي ...
هي أفكار على كل حال وقد تجد مسوغاتها في السياقات التي جاءت فيها. وكلٌ من هذين استاذ كبير محترم وليس مثلنا من يتطاول على قامات كبيرة متخصصة. ثم اننا بعد كل شيء معنيون بظاهرة شعرية الافكار وانه امتاز في تلك التجربة طيلة اشعاره و لم يقل يوما انه مفكر او فيلسوف. الجماليات هي الواضحة وهي امتيازه. وهي التي رسمته شاعراً، سواء أكانت مضامينه فلسفية او انه يجد الشعر حين يفكر او حين يقرأ فكراً. والاس ستيفينس، هو لا غيره، من يحسم المسألة. ها هو يقول : سأكون فيلسوفا اذا اعتمدت في القصيدة ثيمة فلسفية. اما اذا استطعت ان اكتب قصيدة بجماليات وفنية قصيدة وبثيمة فلسفية، فهذه ستكون قصيدة القصائد... وهو ستيفينس، لا غيره، يُعرّف الشعر بانه مشهد غير رسمي لـ"وجود" يضعُه مقابلاً مضاداً لـ"فلسفة". وكلمة "مضاداً" هنا مهمة لستيفينس من اجل مقارنة عميقة بين الموضوعتين : يقول في قصيدة له
ليس رؤيا لكن وضوح ، بعض
تلك الجغرافيا المبسّطة ، التي فيها
تأتي الشمس مثل خبر من افريقيا..
فالخبر يأتي من افريقيا والرؤيا تأتينا من الليل وقد صار معروفا للوعي. انه خبرُهُ يشرق من شبهِ قارةِ اللاوعي ...
ولكي يكتسب الكلام موضوعية اكثر، ومهما وفر ستيفينس من فن شعري وجماليات ابداع، نراه احيانا يقدم ضمن قصيدته كتابة أُخرى لسطور من سانتيانا أو وايتهيد ، الفيلسوف الاميركي المعروف، مذوباً تعقيداتهما الفكرية في فنه الشعري.
وهنا لابد لي من تعقيب اختم فيه الكلام، فأقول ان الضعف الحقيقي والجذري لعموم شعرنا العربي سببه الافتقار الى الثقافة الفكرية فكان البديل هو الاسراف العاطفي والمبالغات او الكلام المنظوم.. وعدد الشعراء القليل الذين امتلكوا تلك الثقافة كانوا شعراء كباراً مرموقين. ونؤكد ثانيةً ان عدد هؤلاء محدود بالنسبة لقوائم الشعراء العرب من الجاهلية حتى اليوم. ولو احتفى شعرنا العربي بتأملات عميقة وبالقضايا المصيرية وبافكار انسانية ووجودية، لكان لنا شعر لا يتردد احد عن وصفه بـ الشعر العربي العظيم ... اما الآن فهذا ما يقوله والاس ستيفينس في المقطع 19 من قصيدته : الرجل ذو الجيتار الازرق
The Man with the Blue Guitar
هنا في المركز يقف قدح
ضوءٌ (هو)الأسد الآتي ليشرب
هناك ، وفي تلك الحال ، القدح بحيرة
عينا (الأسد) حمراوان ومخالبه حمر
الضوء يخبو وهو يرطّب فكّيْه المُزبِدَين
بعد هذا لابد من القول: ان ستيفنس كان يتحفظ من اية اشارة تبدر في رسائله تشي بمحدوديةٍ ما،شيء، حدث او فكرة. يقول في رسالة له: ليس ممكنا التماسّ مع اي معنى عقلي في مثل هذا الامر من دون تدمير الغموض الجمالي او الغموض العاطفي او اللايقينية المتضمَّنة فيها. ولهذا لا يحب الشعراء الشرح... فالمعنى المُعطى من الاخرين يكون احيانا من معان لم تخطر للشاعر ولم تحضر في عقله وما شاءها تضرّ بمعانيه.