تقف تجربة الفنان التشكيلي كامل حسين في معرضه الاخير وقفة مناظرة لما قدمه من تجارب سابقة ، حيث الاخذ بموضوعة واحدة ، ثم استنهاض بعض الثيمات المكونة لهذه الموضوعة وتكريسها بوصفها واحدة من استنتاجات الفنان وهو يغور بعالم الألوان واللّعب بالاشكال التي يح
تقف تجربة الفنان التشكيلي كامل حسين في معرضه الاخير وقفة مناظرة لما قدمه من تجارب سابقة ، حيث الاخذ بموضوعة واحدة ، ثم استنهاض بعض الثيمات المكونة لهذه الموضوعة وتكريسها بوصفها واحدة من استنتاجات الفنان وهو يغور بعالم الألوان واللّعب بالاشكال التي يحيطها ويقدمها فناً متكاملاً ، او اعمالاً منضبطة ..
معرضه الأخير المعنون بـ(موسيقى الألوان ) هو المعرض الثالث عشر الذي أقيم في قاعة مؤسسة برج بابل في العاصمة بغداد منتصف شهر آذار، وبرعاية المدير العام لدائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة الدكتور شفيق المهدي ، اعطى انعطافة ثقافية من حيث التلقي ـ بعيداً عن اداءات اللًوحات وتقنياتها ـ ، ولا ضير في ذلك ، غير اننا امسكنا بعمق الأشكال وهي تكشف عن ترنيمة ثيمية /موسيقية / مؤثرة ..
اللّوحات جميعها قدمت نفسها على انها تحمل سمة البناء الفني التجريدي البحت ، وهذه الطريقة لم تفارق الفنان ، إن لم تكن هويته الخالصة ، وان الثيمات المرسومة ، هي علاقات جسدية لموضوعات كبرى ، ركز عليها كامل حسين لسبب جوهري ، انها تحمل قصدية مضمونية لجوانب عدّة ، منها اجتماعية وسياسية وآيديولوجية ، ومنها ايضاً نفسية ، لأن الجسد هو محور الاشياء عندنا او عند الفنان ..
إن مثل هكذا تجربة ، تحيلنا الى ثنائية ضمنية ، هي ثنائية (اللّون والمضمون) ، وهي ثنائية متداخلة ولا يمكن ان تنفصل ، فكل واحدة مكملة للأخرى ، ولكن حين نمسك بعبارة (موسيقى) تكملها (اللّون) ، هذا يعني التركيز على (تكنيك) مهاري لعلاقات الألوان مع بعضها ، لتشكل وحدة دلالية راكزة تعطي معنى حسياً/ بصرياً/ منغماً ، وهذا ما لمسناه في أكثر من (30) لوحة معلقة في المعرض ، بالاضافة الى الطريقة المستخدمة في رسم اللّوحات ، اعتمد الفنان ألوان (الأكرلك) في أغلب لوحاته ، ذلك لأن هذه الألوان تختلف عن مادة الزيت ، فهي تتشبع في خامة القماش أو أي مادة اخرى بطريقة منسرحة ، في حين مادة الزيت تكون مجسدة بعض الشيء ..
ولنتمعن أكثر في معرض (موسيقى الألوان) ونواجه الفنان أمام لوحاته ، ماذا عسانا أن نقول امام تجربة تشكيلية فيها من الحرفة ما يجعلنا أكثر مهنية ونحن نمسك أقلامنا ونشخص نقدياً ما طرح من ثيمات جمالية ..!! لكنها تجربة ممسكة بتراتبية متناظرة مع تجارب سابقة له ، حيث الاشكال ذاتها ، والمخيلة ذاتها ، وطريقة استخدام الألوان ذاتها ، والفكرة المطروحة ذاتها .. بقيت فقط العلاقات اللّونية مع بعضها ، فيها من الجرأة ما يقدم الأشكال جمالياً بمتعة النص البصري .من صميم اشتغالات الفنان في معرضه الثالث عشر ، فإن لغة الاسترسال التجريدي الذي ظهرت عليه ، تعطي كيفية الأخذ بنظر الاعتبار الاسترخاء المهاري الواضح في جميع اللّوحات ، فبعد ان رسخ مفهومه الفني / المضموني / بتقانات الاداءات التجريدية ، بانت ملامحه وبصماته واسلوبه في الكشف عن تفرده لهذه التجربة .. فكانت له التفاتة مهمة وذكية في التركيز على تقنية الألوان ، ونجد في كل لوحة زحمة متداخلة / متناظرة / متضادة ، من الألوان ، وحين تمتع النظر ، او بالاحرى قبول العين على تكوينها ، تصبح قراءة اللّوحة سواء كانت للفنان او للمتلقي قراءة ثيمية/مجازية ، إن لم نقل بأن الألوان تطفح على سطح كل لوحة لتشكل ايقاعاً بصرياً مؤثراً ، وهذا من صلب ما معمول عليه ..
وحين تصبح اللًوحة ذات محمولات قصدية ، فإن ذلك يفتح لنا قراءات فاحصة لدلالات الأشكال ومكوناتها الثيمية ، ومعرض (موسيقى الألوان) يغري المتلقي للوهلة الأولى من خلال اللّعب الّلوني ، وطريقة استخدام كل الأشكال بمهارة خاصة ، ومع حضور الاجساد بالطريقة التجريدية ، ثمّة اشكال سيمائية للوجوه ، لكنها وجوه منصهرة في زحمة الاشياء المرسومة ، الفنان (هنا) يمسك بموضوعته ، رغم انه يجعلها متناظرة مع اللّون ودلالته ..
لا أعرف ان شاطرني أحد في الرأي الذي اقول فيه بأن كامل حسين فنان يبحث عبر اشكاله في ذات هائمة بالتلاشي ، ولا أشك في ذلك لأنه يمتلك موهبة كتابة الشعر ، لذا تأتي الاشكال عنده مجردة ، فهي لغة معبرة عن حالات شعورية ، او هي احساس داخلي كبير ، ربما لا تظهر الاً في ارهاصات خاصة .
وأنا اتجول في قاعة العرض وسط حضور واسع وكبير من المثقفين والجمهور، كانت خطواتي قلقة وأنا ابحث عن سرّ اشتغال الفنان على لوحات لها مرجعيات دقيقة وشاخصة ، لكن سرعان ما انتابني هاجس عميق في اللاوعيّ الثقافي حين شعرت بجدل الألوان وهي تقدم ايقاعاً بصرياً من نوع خاص ، مع احتدام الألوان الحارة والباردة والمضيئة والقانية ، كلّها أفادت بشكل كبير ما تصبو اليه حقيقة التجربة ، بأن التركيبة اللّونية ومكوناتها الكيمائية ، لها افتراضاتها البصرية في التلقي من الناحية المكون الفيزياوي ، وهذا شرخ كبير في النقد الفني الذي لم ينتبه اليه النقاد (ربما القليل منهم) ، في تشخيص الاعمال الفنية من هذا النوع ..
(موسيقى الألوان) ، معرض كشف عن هوية كامل حسين من خلال نمطه المعهود في تقديم هكذا اسلوب فني / تشكيلي ، ومع ما قدمه من اعمال سابقة لها بصماتها الخاصة في التحولات الأدائية والمضمونية لحقيقة الفن التجريدي ، الآً اني أحسب ان طريقته هذه في الأعمال المعروضة حافظت على نسقه الذي عرف عليه ، وهنا لا يعني انه لم يقدم تحولاته التي لمسناها في معارضه السابقة بقدر ما كانت متعة الأداء اللّوني الذي ساد لوحات المعرض ، ما جعل تفحصاتنا النقدية تقف عند حدود هذه الميزة ..