TOP

جريدة المدى > عام > فصولٌ من السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

فصولٌ من السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

نشر في: 22 إبريل, 2015: 12:01 ص

القسم الثالث والعشرون
 
بعْد أن عدْنا إلى لندن حصلْتُ على عملٍ في مطعم ( ليونز كورنر هاوس ) بشارع كوفنتري و كان عملي آنذاك بوّاباً للمطبخ ، و رأيتُ العمل ممتِعاً بما يكفي فقد كنت أحصلُ على طعامٍ مجّانيّ جيّد و بدأ وزني يتراكم ، و الذّكرى الوحي

القسم الثالث والعشرون

 

بعْد أن عدْنا إلى لندن حصلْتُ على عملٍ في مطعم ( ليونز كورنر هاوس ) بشارع كوفنتري و كان عملي آنذاك بوّاباً للمطبخ ، و رأيتُ العمل ممتِعاً بما يكفي فقد كنت أحصلُ على طعامٍ مجّانيّ جيّد و بدأ وزني يتراكم ، و الذّكرى الوحيدة السيّئة الّتي تجعلُني أرتجِفُ متى ماتذكّرْتُها هي ذكرى عجوزٍ لندنيّة بَرِمة بالحياة و تبدو متوجّعة و متقزّزة طول اليوم ، و حصل ذات يومٍ أن رأتْني هذه العجوز الوقحة أتناولُ شيئاً من كيكةٍ بالكريمة فأبلغت عنّي مديرة المطعم على الفور، و مع أنّ المديرة لم تفعل شيئاً أكثر من قليلٍ من التّوبيخ لكنّ احتقاري للعجوز بلغ بي حدّاً جعلًني أتمنّى ضرْبَها و عندها قرّرْتُ ترك العمل في المطعم ، و مضيْتُ أفكّرُ كم كانت حياة تلك العجوز كئيبةً و مفتقِدةً للمعنى و أنّها هي من اختارت أن تتّخذ موقفاً سلبيّاً و تبقى ملتصقةً بقيمِها الصغيرة و عندها ترسّخ إدراكي بحقيقة " أنّ الكائنات البشريّة تموتُ داخل زنزانة سجْنٍ تخلقُها ذاتُ تلك الكائنات إلّا إذا ابتغتْ خلاصاً يقومُ على توجيه كل طاقاتها نحوَ خارج ذواتها المُغلقة سعياً وراء هدفٍ غير شخصيٍّ " . مضيْتُ كعادَتي في النّوم داخل حقيبة نومي بمنطقة هامبستد هيث و كنتُ أختارُ دوماً ذات المكان تحت شجرةٍ عند منحدرٍ صغير ، و لكن عندما صارَ الجّو أكثر ميلاً للبرودة قرّرْتُ البحث عن غرفة للإيجار ، و كانت مشكلتي مع حقيبة النّوم هي أنّها لم تكن تسمحُ بتسريب العرق لذلك كانت تبدو مبلّلة في الصّباح كما لو أنّ مياه الأمطار قد تسرّبت إليْها ، و عثرْتُ في نهاية الأمر على غرفةٍ في منطقة بروكلي Brockley قرب محطّة نيوكروس ، و كانت مالكة السّكن سيّدة لندنيّةً بدينة أفضل من سابقاتها إلى حدّ لا تجوزُ معه وضعُها موضع المقارنةِ معهنَّ ، و أخبرْتُها أنّ جوي زوجتي و انها تدرسُ علم المكتبات و لا تستطيعُ قضاء سوى عطلات نهاية الأسبوع معي ، و مع أنّها عرفت بأنّني لم أكنْ أقولُ الحقيقةَ لكنّها لم تهتمَّ للأمر أبداً .
اختبرْتُ تلك الأيّام طوْراً من الاهتمام بالموضوعات التصوفيّة ، و لحسْن حظّي فإنّ مكتبة بروكلي العامّة كانت تحتوي مجموعةً من أفضل كتب التصوّف في لندن و كان معظمُ تلك الكتب محفوظاً في الطابق السفليّ من المكتبة و لم يكن يُسمحُ بإعارتِها خارج المكتبة ، و كان ثمّة سؤالٌ أساسيٌّ آنذاك يشغلُ تفكيري أكثر من سؤالٍ سواه : ما الّذي يمكنُ للإنسان المُعاصر أن يفعلَهُ وسْط حضارةٍ مثل حضارَتنا لا تمتلكُ رمزاً حقيقيّاُ للقيم الروحانيّة ؟ . كان في وسْعِ المرء إبان القرون الوسطى - لو كان ذا مزاجٍ يشابهُ مزاجي - أن ينخرِطَ في حياة زاهدة داخل أروقة أحد الأديرة ، و لكنّ الأمر استلزم منّي عشر سنواتٍ إخرى - و ربّما أكثر - لكي أتعلّم التمييز بين جوهر الدّين و بين طقوسيّاته المُرعِبة ، و غدوْتُ متّفقاً مع إليوت في ضرورةِ أن يكون الدّينُ شيئاً يمكنُ للجميع أن يروْهُ و أن يلمسوه تماماً مثل الانحدار العظيم لبرجِ كاتدرائيّة مهيبة بنوافذه الزّجاجيّة الملوّنة ، و تراتيل الرهبان على ضوء الشّموع ، و المواكب الضخمة للناس المُرتدين ملابس أرجوانيّة و فضّيّة وسط رائحة البخور المحترق ، و لكلّ هذه الأسباب كنتُ ميّالاً بكلّيّتي إلى الكاثوليكيّة و لطالما اخبرْتُ جوي برغبتي في دخول ديْرٍ في أحد الايّام القادمة و لم يكن هذا لتوْقي إلى حياة البتوليّة و الرأس المحلوق بل لمحْض رغبتي في إيجاد طريقٍ لي في الحياة يتوافقُ مع دوافِعي الدّاخليّة : أردْتُ الإفلات من قبضة حضارتِنا الراهنة الّتي أرغمتْني على الاستسلام لاعتباراتها المادّيّة و كان شعارُها المعلنُ أنّ "الإنسان كائنٌ إجتماعيٌّ" أوّلاً و قبل كلّ شيء آخر.
قبل أعياد الميلاد من تلك السّنة اشتريْتُ آلةً كاتبةً قديمة من أحد أصدقاء بيل هوبكينز في مقابل سبعة جنيْهات و مضيْتُ على الفور في نسْخ القسم الاوّل من كتابي ( طقوسٌ في الظّلام ) ، و تركْتُ عملي حينذاك في مطعم ليونز قبيْل أعياد الميلاد عام 1954 و مضيْتُ للعمل في مكتب البريد بمنطقة ( غراند سانت مارتن ) و قضيْتُ أعياد الميلاد و انا مُنغمِسٌ بالكتابة وَحيداً في غرفتي بعد أن كانت جوي غادرت لرؤية والديْها الّلذيْن كانا ميّاليْن آنذاك للمصالحة معي و راحا يطلبان منّي الزّواج من جوي ، و كنتُ في تلك الايّام أشعرُ بوهَنٍ عظيمٍ مالمْ أكُنْ أعملُ على كتاب الطّقوس ، و حصل ذاتَ يومٍ - و بعدَ أن تناولْتُ غداءً من بيضةٍ و قطعة لحم مُقدّد و طماطم معلّبة - أن انغمسْتُ في وضْعِ مخطّطٍ أوّليّ لكتاب " الّلامنتمي" الّذي كنتُ خطّطْتُ لكتابته قبل زواجي من بيتي ، و بعْدَ أن قرأتُ كتاب اللامنتمي لِـ ( كامو ) صرْتُ مفتوناً للغاية بصورة البَطَل السلبيّ غير الفاعل : الشّخص الّذي يكتفي بالتدخين ، و ممارسة الحبّ ، و التسكّع تحت أشعّة الشّمس فحسبُ و تذكّرْتُ من فوري كريبس Krebs : بطل قصّة همنغواي (منزل الجنديّ ) الّذي يختبرُ إحساساً بالّلامُبالاة المطلقة بعْدما يعودُ إلى منزله في الغرب الأوسط الأميركيّ عقب نهاية الحرب العالميّة الأولى ، و استدْعت صورةُ كريبس لديّ بدوْرِها صورةً أخرى هي أوليفر في مسرحيّة غرانفيل باركر ( الحياة السّرّيّة The Secret Life ) و بدأ آنذاك شيء ما يتشكّلُ في عقلي و كتبْتُ في أعلى صفحةٍ من صفحات يوميّاتي "ملاحظاتٌ أوّليّة بشأن فكرة الّلامنتمي في الأدب : ينبغي التّركيز على فكرة أنّ الّلامنتمي هو دليلٌ لنمطٍ خاصّ من الارتقاء الاخلاقيّ الّذي يبحثُ عن أرقى نماذجه في التقاليد المسيحيّة " ، و ما أن فتح المتحفُ البريطانيُّ أبوابه في السّنة الجّديدة حتّى سارعْتُ بركوب درّاجتي و مضيْتُ لأبدأ الكتابة في كتاب ( الّلامنتمي ) و كنتُ توّاقاً للغاية لرؤية أنغوس و لكنه كان في إجازةٍ تمتدُّ لشهْرٍ كامل ، و بينما كنتُ في طريقي إلى المتحف البريطانيّ استذْكرْتُ الكاتبَ ( هنري باربوس ) : فقد كتب في مقدّمة كتابه ( في مرْمى النّار Under Fire ( أنّ نجاحهُ الرّوائيّ الاوّل كان مع كتاب ( الجّحيم ( Hell الّذي يحْكي فيه عن رجُلٍ يكتشفُ ثقباً صغيراً في أحد جدران غرفته و يمضي في قضاء كلّ وقته و هو يراقِبُ العالم من خلال ذلك الثّقب ، و بدا لي ذلك الرّجل نموذجاً مثاليّاً لفكرة الّلامنتمي ، و في اللحظة الّتي وصلْتُ فيها المتْحف مضيْتُ على الفور إلى المكتبة و طلبْتُ نسخةً من كتاب الجحيم لباربوس و عندما جاءتْني النسخةُ قراتُها في جلسةٍ ممتدّة واحدة من الصّباح و حتّى المساء ، و بعد أن غادرْتُ المتحف في نحو الخامسة مساءً كنتُ أدركُ بكلً يقين أنّ البداية المُناسبة لكتاب اللامنتمي صارت في حوْزتي .
كانت قد مضتْ سنواتٌ عدّة و أنا أواظبُ على تسجيل يوميّاتي بانتظامٍ و كنتُ أسجّلُ كلّ ما يحوزُ انتباهي و أراهُ مهمّاً في الكتب الّتي أقرؤها مُحاولاً إيجاد رابطةْ من نوعٍ ما بين الاعمال المختلفة من أدب اللامنتمين و بين تجاربي الشخصيّة ، و كنتُ أحتفظُ بيوميّاتي قريبةً منّي و انا أكتبُ و امتلأت بأكداسٍ من ملاحظاتٍ متنوّعة : رامبو ، و أكسيل ، و راسكولنيكوف ، وَ ستيبينوولف ، وَ ريلكه ، وَ نيتشه ، وَ كتاب نيبورNiebhuhr : طبيعةُ الانسان وَ مصيره Nature and Destiny of Man ) )، وَ ميستر إيكهارت ، وَ راماكريشنا ، وَ جورج فوكس ، و كانت النسخة الأوّليّة من الطقوس تحتوي إشاراتٍ غامضة إلى كلّ هؤلاء و لكنّي وجدْتُ في نهاية الأمر أنّ من غير المناسب أن تكون روايتي مثقلةً بهذا النّوع من الغموض . ثمّة بصيرةٌ أخرى راودتْني و أنا أمشي بصحبة بيل هوبكينز قريبا من محطّة تشيرينغ كروس لقطار الأنفاق ، إذ بينما كنتُ أتحدّثُ إلى بيل بشأن عقدة روايتي ( طقوسٌ في الظّلام ) أوضحْتُ له أنّ شخوصها الرئيسيّة الثلاثة تمثّلُ بالضّبط ثلاثة أنماطٍ مختلفةٍ من اللامنتمي : البطل جيرارد سورم Gerard Sorme يُمثّلُ اللامنتمي ذا القدرة العقليّة المنضبطة مثل نيتشه و لكنّه يفتقدُ السّيطرة على جسده أو عواطفه ، و الرسّام أوليفر غلاسب Oliver Glasp الّذي كان ذا انضباطٍ عاطفيّ صارم مثل فان كوخ و لكن يفتقِدُ السّيطرة على عقله أو جسده ، و أخيراً القاتلُ أوستن نَنْ Austin Nunne الذي كان له انضباطٌ جسديٌّ هائلٌ مثل نيجينسكي و لكن تعوزهُ السّيطرة على عقله و عواطفه ، و لو أتيحَ لنا جمعُ هذه الأنماط الّلامنتمية الثلاثة في كائنٍ واحد لكانوا شكّلوا كائناً بشريّاً متكاملاً عوضاً عن ثلاثِ كائناتٍ غير كاملة . كان دوستويفسكي قد استخدمَ من قبلُ الأخوة كارامازوف في محاولتهِ عرْضَ ذات الموضوعة بطريقةٍ رمزيّة : إيفانُ يمثّلُ العقل ، وَ ميتا يمثّلُ الجّسد ، و إليوشا يمثّل العواطف ، و هذا هو السّبب الّذي جعل من الأخوة كارامازوف تشغِلُ حيّزاً أساسيّاً في كتاب اللامنتمي .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram