TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > هل القارئ هو مؤلف ثانٍ حقّاً؟

هل القارئ هو مؤلف ثانٍ حقّاً؟

نشر في: 22 ديسمبر, 2009: 04:57 م

محمود عبد الوهابمرّتْ النظرية الأدبية ، عبر تاريخها ، بثلاث مراحل : مرحلة الاهتمام بالمؤلف ، مبدعاً للنصوص ومُنشئاً لها ، ما جعله مركز الدراسة ، وفي مثل هذه الحال، تتطلب القراءة معرفة حياة الكاتب والمؤثرات التي أسهمت في صنع نصوصه ، وكأن النصّ تابعٌ أمينٌ لشخص كاتبه ،
لا تُفكّ مغاليق نصوصه إلاّ بأن يمسك الدارس بالبيئة التي أحاطت بصاحبها ، ومرحلة تالية أكّدت فاعلية النص في مجال القـــراءة ، بمعزلٍ عن كاتبه ، وهي مرحـــــلة عُرفت بـ " النصيّة " ، وكانت مقولة " موت المؤلف " أداة إجرائية في قراءة النصّ وإنتاج دلالته ، بعيداً عن نيات مؤلفه وحياته ، وبعيداً عن المؤثرات المكانية والزمانية والثقافية والنفسية التي كانت وراء إبداعه ، وفي العقدين السابع والثامن من القرن الماضي ، هيمنت نظرية التلقي على المناهج النقدية ، وهي المرحلة الثالثة من تحولات القراءة ، وذلك باتخاذها القارئ فاعلاً أساسياً في عملية إنتاج المقروء وندّاً لمؤلفه ، وأصبحت هذه النظرية نموذجاً جديداً في حقل القراءة ، بعد تقويم المناهج النقدية السائدة أو إقصائها ، وبعد تأكيد المفهوم الجديد للنصّ الذي لا يتخلّق إلاّ بفعل القراءة ، كما أصبح هذا النص ، بالمفهوم الجديد أيضاً، لا ينتمي إلى ذاته ، بل إلى عملية التفاعل والمشاركة التي تقوم بينه وبين قارئه ، من خلال اشتغال القارئ به ، وهكذا جرّد منظرو التلقي النصّ من حقيقته واستقراره بعد تكريس الاهتمام بالقارئ الذي أصبح مركَزاً أساسياً في إنتاج الدلالة ، ومن هنا فلم تعد القراءة ، بهذا المفهوم الجديد ، تفسيراً للنص أو شرحاً له ، بقدر ما تنطوي عليه من فعل الإبداع ، وهكذا حظي القارئ في المنهجيات الحديثة بموقع استثنائي ، استبعَدت فيه تلك المنهجيات القارئ العادي ، وتوجّت مكانه " قارئاً فائقاً " أو "نموذجياً" أو "مثالياً " ، وهو إقرار صريح للمفهوم الجديد ، بامتلاك القارئ تمرّساً وقدرة على إنتاج دلالات النصّ ما جعل القارئ مؤلفاً ثانياً، وتأكيداً فإن أيَّ تلقٍ إبداعي لا يتمّ إلاّ بتفاعل متلقيه بالنص ، غير أن هذا التفاعل لا يتحقق إلاّ عبر إشارات ومحدّدات وقرائن مبثوثة في نسيج النصّ ، تعمل هذه الإشارات على إثارة المتلقي باستدعاء خبرته ومستودعه ، لأن أية إضافة لدلالة من دون قرائن يعدّ تلقياً إسقاطياً ، فالقراءة لا تمتلك طابعاً انفتاحياً مطلقاً ، والقارئ يخضع لمجموعة من الشروط التي تكمن في النصّ الذي يضمُ عدداً من الشفرات والمحددات التي يصنع بها مرجعيته و استراتيجيته الخاصة التي تسهم في سيرورة التلقي ، وترسم حدوده بالتحكّم في القراءة على شكل تعاضد بين القارئ والمؤلف ، وعلى وفق مقاصد ، هي قصديّة الكاتب ، وقصديّة النص ، وقصديّة القاريء . إن فعل الكتابة إرسالاً ، على فعل القراءة تلقياً وتعاضداً ، يفضي إلى إنتاج خطاب تراسلي بين المؤلف والقارئ ، تكون فيه القراءة ، الفعلَ المنتج للخطاب الإبداعي الذي تتضاعف فيه دلالة المقروء بما يمتلك النص من إشارات تندمج ببنياته ، لتحيل القارئ إلى مستودعه ومخزون خبرته ، ما يمنح النصّ تجاوزاً لذاته ، كما يمنح القارئ تأويلاً مشروطاً بالقرائن والإشارات المبثوثة داخله ، فليس النصّ ، بحسب إيكو: " مرتعاً للإسقاطات الذاتية ، بل على العكس ، فإنه تلاقح مركّب بين ذات القارئ وموضوع النصّ .. غير أن مقولةَ الانفتاح هذه مشروطة ، من حيث أن القارئ لا يستطيع فتح النصّ على مصراعيه ، لأنه لا يستطيع بتاتاً تنحية المعالم العامة التي رسمها النصّ ، ولا يستطيع تجاوز مجال تداول قراءته الممثَّل في النسق الثقافي النسبي الذي يساعده على تفعيل النصّ ". إن مشروع إيكو التعاضدي، ومقولته في " حدود التأويل "، تجعل من القارئ أحد الفاعلين في القراءة ، لا الفاعل الوحيد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram