تجتهد المجتمعات في تغذية الثقافة العامة بكل السبل والممكنات ومنذ ان دخل التاريخ بمرحلة الثورة الصناعية في القرن التاسع العشر وما قبله حتى ظهرت السينما كمحايث لهذه الثورة ،لقد استطاعت السينما منذ ذلك الحين ولحد الان تجسيد كل الظواهر السياسية والاجتماع
تجتهد المجتمعات في تغذية الثقافة العامة بكل السبل والممكنات ومنذ ان دخل التاريخ بمرحلة الثورة الصناعية في القرن التاسع العشر وما قبله حتى ظهرت السينما كمحايث لهذه الثورة ،لقد استطاعت السينما منذ ذلك الحين ولحد الان تجسيد كل الظواهر السياسية والاجتماعية والاخلاقية والنفسية التي يمر بها المجتمع وفضح كل ما هو سلبي وترسيخ الايجابي منها وتقديم الصور باسلوب فني اخاذ فكانت العين البصيرة للتحولات الكبرى ومقياس ريختر زمانها تسجل الاهتزازات والانهيارات التي تحصل في المجتمع ، واصبحت ثقافة الصورة جزءا من ذاكرة المجتمع ورافدا حيويا لتنمية ورقي ذائقة المواطن الفنية..ولم تكتف السينما بتصوير الواقع الحاضر بل امتدت مجساتها لتصور الملامح والاساطير وقصص ابطال شعوبها التاريخيين فكانت السينما شاهدا على الارث الحضاري والوجودي لمجتمعاتها . ولذلك ارتبط ازدهار الوعي بازدهار السينما ، فالمجتمعات الراقية لديها فن سينمائي راقٍ..
ان السينما تعتبر من ارقى الفنون البصرية وهي تؤشر لرقي اجتماعي وكما قال الفيلسوف الالماني غوته ( اذا انحط الفن والادب في امة فهذا يعني انحطاط الامة )..لقد عملت السينما على تطوير الانماط السردية من قصة ورواية ومسرح وانماط تعبير وفنون تشكيلية وموسيقية لان التطور الهائل الذي حصل في السينما يستوجب بالضرورة تطويرا لاساليب السرد الحديثة وملء فراغات الصورة بالخطوط الفنية الراقية سواء في مجال التشكيل او في الموسيقى او في الرؤى الفكرية والمخيالية ، هذه الفنون اصبحت ملازمة للسينما وتتنافذ معرفيا وتطوريا معها..
حين ترسخت الحياة العراقية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ابتدأت الحاجة الاجتماعية الى وجود سينما ترصد التحولات في المجتمع فدارت اشرطة السينما رغم فقر الامكانيات وأُنتجت افلام ما زالت راسخة في ذاكرة المشاهد العراقي فكانت افلام (الحارس وعلية وعصام وسعيد افندي وغيرها ) نقلة فنية نوعية كبيرة في زمانها رغم فقر الانتاج، وانتبهت السينما العراقية الى الرواية الواقعية وخاصة روايات غائب طعمة فرمان وبعض الروائيين العراقيين فانتجت الافلام التي جسدت طبيعة المجتمع العراقي ورصدت تحولاته القيمية وتغيراته الاجتماعية..لم تنتعش السينما في العراق لان السينما تحتاج الى فضاء شاسع للحرية ولذلك عمدت كل الانظمة السياسية وخاصة في مرحلة النظام السابق الى التضييق على السينما لانها بالضرورة ستفضح كل ظواهر الموت والخراب والملامح الدكتاتورية التي سادت الحياة العراقية لمدة خمسة وثلاثين عاما ولذا لم ينتج من افلام الا ما يمجد الحرب والبطولات المشوهة بل ان الدولة عمدت كذلك الى منع القطاع الخاص من انتاج الافلام السينمائية الرصينة ووضعت الرقابة الصارمة عليها ومنعت وصول الاشرطة والمختبرات السينمائية ولم تجِز العمل الا لمجموعة من الاعمال والتي تسمى بافلام السكرين والتي كان البعض منها يسيء الى واقع المواطن وذائقته..
ما يحز في النفس في الزمن الجديد ما بعد 2003 هو ان المؤسسات الفنية لم تكن جادة بالنهوض بقطاع السينما وهي تتشدق بنفس الاعذار السابقة من عدم وجود التخصيصات المالية ومن غياب المختبرات واجهزة السينما..كما ان القائمين على القطاع الفني لم يكن يعنيهم يوما ان يرتقوا بالثقافة السينمائية ،فما زالت السينما العراقية تستعير اليوم ادوات التلفزيون من كاميرات واجهزة فنية ، كما ان المسؤولين عن هذا القطاع السينمائي لم يعملوا يوما على اقامة ندوات وملتقيات جادة يتدارسون فيها واقع السينما وكيفية تطويره وان حصل هذا فانه يحصل في الغرف المغلقة وبالهمس حتى لا يسمع المعنيون بهذا الامر فينقلب السحر على الساحر والخاسر في هذه المزايدات الرخيصة هو المواطن والا فهل يعقل ان تكون ميزانية الدولة كل عام ، ولسنين عدة ، قرابة المئة مليار دولار ولا تقدر ان تشتري المعدات والمختبرات للسينما بعشرات الاف من الدولارات..اية دولة هذه..؟
ان الحياة العراقية زاخرة بالمواضيع الحيوية ،وقد عمل الغرب وحتى البلدان العربية على استعارة الموضوع العراقي كونه دسما ويشكل نقطة تغيير ليس في العراق وحسب بل في كل العالم وما محاولات بعض الفنانين العراقيين المغامرين من صناعة سينما عراقية يشار لها الان بالبنان في كل العالم الا محاولات فردية بطولية تصطدم بمحاولات الظلاميين والحاقدين للحد من انتشارها ، من غير المعقول ان لا توجد سينما عراقية تؤرخ هذه المرحلة التاريخية..سينما تاخذ بيد المواطن وترية حقيقة ما يحصل في العراق من ظواهر سلبية او ايجابية وترمم ذائقته التي تصدعت بالفوضى واليباب..يبدو انها سياسة الدولة والقائمين على هرمها والذي اصبح وجودهم مقترنا بتجهييل المجتمع فما دام الفرد العراقي متخلفا وبربريا ويعيش في الماضي وفي ثقافة الاموات فهذا يعني بقاءهم على راس السلطة الى ابد الابدين..لا يوجد بلد الان كالعراق فكل شيء يحاولون ارجاعه الى الوراء فكيف سيكون حال السينما وهم ما زالو ينظرون الى الصورة على انها حرام ورجس من عمل الشيطان..! فمن سينقذ السينما العراقية..؟