TOP

جريدة المدى > سينما > "سر القوارير" نقطة مضيئة في تاريخ السينما العراقية

"سر القوارير" نقطة مضيئة في تاريخ السينما العراقية

نشر في: 23 إبريل, 2015: 12:01 ص

اختلف المختصون حول صفة الافلام السينمائية التي انتجت على مدار اكثر من نصف قرن في بلادنا ، فالبعض يرفض تسميتها بــ "السينما العراقية" لانها لا توجد ملامح سينما عراقية لحد الان ولم تشكل السينما ،مثل الشعر او التشكيل، ظاهرة محددة المعالم واضحة البيانات

اختلف المختصون حول صفة الافلام السينمائية التي انتجت على مدار اكثر من نصف قرن في بلادنا ، فالبعض يرفض تسميتها بــ "السينما العراقية" لانها لا توجد ملامح سينما عراقية لحد الان ولم تشكل السينما ،مثل الشعر او التشكيل، ظاهرة محددة المعالم واضحة البيانات والاتجاهات. بينما البعض الآخر يصر على هذه التسمية معتقدا ان ما تم انجازه خلال السبعين سنة كفيل بتشكيل ملامح واضحة لسينما عراقية رغم غرابة هذا الفن علينا ورغم استيرادنا، ولهذه اللحظة، كل ما يتعلق بهذا الفن من الخارج بما فيه التقنيين والفنيين !
ورغم تقطع الانتاج السينمائي وعدم وجود تراكم كمي ونوعي الا اننا نلاحظ يوما بعد يوم تكشف خيوط مضيئة في عالم السينما العراقية التي عانت من انقطاع طويل خاصة في المرحلة السابقة، ذلك الانقطاع الذي امتد منذ منتصف التسعينات وحتى عام 2013، حيث تم التخطيط لانتاج اكثر من 30 فيلما، طويلا وقصيرا، وثائقيا وروائيا.. وقبل هذا الانقطاع كان الإنتاج الثقافي بشكل عام والسينما بشكل خاص يخضعان لرقابة صارمة من النظام البائد، بعكس أيامنا هذه حيث الكلمة والصورة تكادان ان تمتلكا كامل حريتهما ..فمقص الرقيب قد دفن مع ذلك النظام، وهذا ما تلمسناه في الأفلام التي عرضت في المسرح الوطني خلال فعالية أيام السينما العراقية التي انطلقت يوم 21/2/2015 واستمرت بعرض أربعة افلام بالاسبوع ..وكان هناك الغث والسمين حالنا حال كل العالم في مجال الإنتاج السينمائي. فأي بلد ينتج عشرات الافلام سنويا لا تجد بينها افلاما ناجحة سوى عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة كما هو الحال في إيران أو القاهرة أو باريس ..

سرّ القوارير ناجحٌ ومؤثر
اليوم نود أن نشير إلى فيلم ناجح ومؤثر استطاع أن يربط المتفرج بكرسيه طيلة ساعتين ونصف الساعة ..وهو وقت طويل نسبيا قياسا بوقت الافلام الروائية المتعارف عليها، ومع هذا استطاع فيه المخرج السيطرة على المشاهد من خلال القصة الجميلة التي كتبها عبد الستار البيضاني وحبكها حوارا وسيناريو واخراجا المبدع د.علي حنون ليقدم لنا مع كل كادره الفني فيلما ناجحا يضاف إلى ارشيف الافلام الناجحة في السينما العراقية .. لا بد أن نشير ابتداء إلى مصمم الديكور الفنان مثنى صبري وإنجازه الجميل ببناء قريتين افتراضيتين، تجري فيهما أحداث الفيلم، وهما قرية "البدور" وقد شيدها من القصب، وقرية "المعب" وشيدها من الطين. أما الموسيقى فقد أبدع الفنان دريد فاضل اختياراته والحانه التي كانت كل جملة منها قد وضعت في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. والمكياج كان أيضا محسوبا بدقة، أما التصوير فقد كان نبها للزاوية والكادر واللقطات المناسبة.

دروس في التمثيل السينمائي
لقد قدم "سر القوارير" درسا بالتمثيل السينمائي، فقد ابدع الأبطال الثلاثة أيما إبداع وهم آلاء حسين وأمير البصري ومازن محمد مصطفى . آلاء التي لعبت دور مناهل، الفتاة التي تتحلى بعقلية الكبار قولا وفعلا وحكمة حتى أنها تبدو أكبر من عمرها .كان يكفي أن يظهر وجهها البيضوي على الشاشة، وهو محاط بكلل السواد، كي تستدر دموعنا في المشاهد التي نتوقع أنها ستكون مؤثرة! ليس جديدا على آلاء أن تكون متميزة، لكنها في هذا الفيلم تستحق أن نفخر بها كممثلة سينمائية تضاهي شقيقاتها العربيات وحتى العالميات لما قدمته من شخصية متماسكة دون مبالغات في النبرة أو في الحركة. أم الشاب أمير البصري والذي يظهر للمرة الأولى فهو بحق ممثل واعد جدير بالاهتمام، حيث لعب شخصية سالم شقيق مناهل، وهي شخصية جديدة عليه كل الجدة ولا يوجد روابط بينها وبين شخصيته الحقيقية المتميزة بابتسامته الطفولية وكانها مرسومة على محياه منذ ولادته ، واذا به يلعب دور ابن الريف المشمئز والمتوتر مما يحيط به، قاطب الحاجبين، عبوس الوجه لا تعرف الابتسامة طريقا له، لقد لعب دوره بجدارة عالية يستحق عليها كل التقدير والاحترام، وكانت واضحة جهود المخرج د.علي حنون الذي بالسهر على تدريب ممثليه وكأنه في ورشة مسرحية متجاوزا العمل على طريقة الممثل الجاهز لتنفيذ " الدور" بيسر امام الكاميرا كما هو معمول به في اغلب المسلسلات العراقية !
البطل الآخر هو الفنان مازن محمد مصطفي الذي فاجأنا بدوره وهو يلعب شخصية شيخ قرية هادئ يمتلك من الحكمة والمعرفة والطيبة ما يؤهله أن يكون شيخا رغم صغر سنه قياسا بأبناء عمومته.. ثم يتحول الى عاشق لمناهل، ليقدم مشاهد غاية في الرومانسية . ( قبل أيام فقط لعب مازن في فيلم بحيرة الوجع ،للمخرج جلال كامل، شخصية شاب متهور وعصبي المزاج حاد النبرة سريع الحركة..شخصية تختلف عما لعبه في سر القوارير مدار حديثنا).اثبت مازن بلا أي شك مقدرته العالية كممثل يستحق الاحترام. اما بقية الأبطال بادوارهم الثانوية فهم نجوم معروفون باسترخائهم وتجسيدهم الناجح لشخصياتهم مثل الفنان الكبير فاضل خليل والمبدع سامي قفطان وصلاح مونيكا وطه علوان ونسرين عبد الرحمن وذو الفقار خضر .. واسجل هنا كل التقدير للفنانة الكبيرة آسيا كمال التي لم تظهر الا بشخصية ثانوية بمشهدين او ثلاثة، الا انها كانت كبيرة بإدائها لتثبت لنا مجددا ان ليس هناك دور قصير بل ممثل قصير. فالممثل الكبير هو من يعطي ومن يجيد دوره مهما كان صغيرا.

سالم هو الذي رأى
تبدأ قصة الفيلم بانتشار خبرعودة سالم ( أمير البصري) من المدينة إلى قريته البدور لينتقم من والده بسبب زواجه من امرأة اخرى فيتوسل به الفلاحون تتقدمهم شقيقته الوحيدة "مناهل" التي اشرفت على تربيته بسبب وفاة والدتهما المبكر. وهكذا يجعلك المخرج متوثبا لمتابعة احداثه منذ البداية وحتى نهايته بعد ساعتين ونصف الساعة! تكشف لنا الكاميرا في قرية البدور عن بائع القرية المتجول متذمرا من فتح دكان جديد يعود إلى تاجر وسيط، مديني اللهجة ريفي الملبس ( الفنان فاصل خليل) ، تاجر يشتري المحاصيل من الفلاحين والمزارعين أو يؤجر البساتين بالكامل ويقوم بتصريف بضاعته في المدينة. فهو ليس اقطاعيا ولا برجوازيا طفيليا بل يمتلك صفات الاثنين بشكل عام. لا يمتلك الأراضي بل يمتلك المال الذي من خلاله يمد جسور علاقاته مع الشيوخ والاقطاعيين والمسؤولين في الدولة. لديه المال الذي يسمح له شراء المحصول قبل نضجه بسعر بخس ليبقى الفلاح مستدينا له طيلة العام. ولذا فإن التاجر فاضل خليل يبدي تخوفه علنا من النضج الفكري والمعرفي للفلاحين لذا فانه يحذر الفلاحين من إرسال أبنائهم لمدارس للمدينة وكان يقصد تحديدا الشاب سالم لأنهم سيلعبون بأفكاره ويصبح شيوعيا! ونرى في سياق الفيلم وقوف سالم مع الفلاحين ضد التاجر سواء في قرية البدور أم في قرية العبارة التي هرب لها هو وشقيقته مناهل. من خلال تفسيره المبسط لعملية البيع والشراء والاستغلال الذي يتعرض له الفلاح..

الدلالة الزمكانية
المخرج يناقش هنا قضية اجتماعية اقتصادية ما زالت سائدة ولو بدرجة أقل من الماضي في ريفنا العراقي. قلنا منذ البدء بأن القريتين افتراضيتان وكذلك الزمن الذي يقع فيه الحدث الا اننا نستطيع ان نموضعه قبيل ثورة 14 تموز او بعدها بقليل فوجود "المتصرف" على راس الادارة المحلية له دلالته الزمنية، ولو ان المخرج او كاتب القصة قد جعل المتصرف كرديا دون مسوغات تبريرية خاصة انها كان يلحن بشكل مبالغ فيه !
هذا الدكان فيه دلالة اخرى وهي التطور الحاصل في العملية الاقتصادية ـ التجارية التي تحولت من البائع المتجول الى "مكان" ثابت لرأسمال متحول يدور في القرية نصف دورة لتستقر نصف الدورة الاخيرة ارباحا متراكمة في جيب التاجر ابن المدينة فاضل خليل.
ذو الفقار خضر ،وهو ابن التاجر، يدخل القرية بسيارته الفارهة انذاك ، سيارة اربعينية او خمسينية، ويتحرش باحدى بنات القرية، ويحاول الاعتداء عليها وسط البساتين، فتهب مناهل للدفاع عنها، الا ان سالما يعتقد بان اخته مناهل وقعت ضحية الاعتداء فيقوم بالتربص لذو الفقار مرتديا عباءة نسوية ليغويه ويخادعه ويقوم بقتله. وحين تتكشف خيوط الجريمة، تأخذ مناهل بيد اخيها سالم وتهرب معه الى المجهول يقودهما هذا المجهول الى ضفة نهر.. ويعبران النهر مع " المعبرجي" ليجدا نفسيهما في قرية اخرى " المعبر" اثناء جني التمور فيوهمان شيخ القرية "مازن محمد مصطفى" بانهما طواشان ، والطواشة كانت مهنة منتشرة في الوسط والجنوب حين كان البلد يعتمد في اقتصاده ومداخيله على الزراعة قبل ان يتحول الى الاقتصاد الريعي ويتحول للاعتماد بشكل كلي على النفط !

وعي المخرج يتسرب لوعي البطل
ويتدرج سالم ليصبح محاسب الشيخ ووكيله التجاري بينما يقع الشيخ في حب مناهل من جهة اخرى، ليقدم لنا المخرج مشاهد حب، غاية في الروعة بالولوج الى الدواخل الانسانية العميقة التي تنتاب الشيخ او مناهل ..مشاهد كادت تنسينا القرية الاولى الا انه يعود لها، بعد مرور وقت طويل نسبيا، وحين يعود بعودة سالم ومناهل لقريتهم الاولى لم نشعر باننا ابتعدنا كثيرعن تلك القرية.
لقد كان المخرج حاذقا بادارة دفة سفينة قريتيه وسكانهما وابطالهما دون ان يتسرب الملل الينا رغم طول الفيلم. لقد كان دقيقا في خارطة الطريق التي اتبعها في رسم مصائر ابطاله ليوصل لنا رسالة جميلة مفادها ان الحب لا بد منه لكي يعيش الانسان سعيدا، وان استغلال الانسان لاخيه الانسان لا يمكن ان يدوم اذا توفر الوعي المطلوب للفرد لمسببات ذلك الاستغلال وكيفية امكان تجاوزه، كما هو حال بطل فيلمه سالم !
كان المخرج واعيا تماما لما يقوم به ولما يريد ان يقوله .. لقد عالج موضوعة يعج بها الريف العراقي من منطلقات فكرية تقدمية تنتصر للانسان وقضيته الاساسية المطالبة بالعيش بحياة كريمة آمنة سعيدة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

جلسة "القوانين الجدلية" تحت مطرقة الاتحادية.. نواب "غاضبون": لم يكن هناك تصويت!

القانونية النيابية تكشف عن الفئات غير مشمولة بتعديل قانون العفو العام

نيمار يطلب الرحيل عن الهلال السعودي

إنهاء تكليف رئيس هيئة الكمارك (وثيقة)

الخنجر: سنعيد نازحي جرف الصخر والعوجة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram