لم يكن الفنان محمد مهر الدين فنانا ً هاويا ً ولا محترفا ً، إنما كان هاويا ً ومحترفا ً يعيش لحظة الوجد المتدفقة في أحضان اللوحة، ليتعبد في محراب الألوان ويضع روحه وكينونته بين الفرشاة والوجه الأبيض لسطح اللوحة، وهو الموقف الذي جره من التشخيص إلى التجر
لم يكن الفنان محمد مهر الدين فنانا ً هاويا ً ولا محترفا ً، إنما كان هاويا ً ومحترفا ً يعيش لحظة الوجد المتدفقة في أحضان اللوحة، ليتعبد في محراب الألوان ويضع روحه وكينونته بين الفرشاة والوجه الأبيض لسطح اللوحة، وهو الموقف الذي جره من التشخيص إلى التجريد التام والتعبيري، وقامت لوحته مقام النص الشعري في الحديث عن آرائه ومعتقداته، مخطئ من يتصور إن مهر الدين كانت لديه نوازع استغلال الفن لصالح قضية شخصية، لقد كان يعبر عن هواجسه وأحلامه، بين عنصرين الأول الانغماس في شرب الكحول، وبالتالي فقدان الاهتمام من ملاحظات الآخرين على كلامه وتصرفه، والعنصر الثاني اللوحة التي كان يرمي بكل ثقله عليها، ويطرح وساوسه وأفكاره المرغوبة فيها والمرفوضة، ويعلن تمرده من خلالها، ولهذا كانت اللحظة التي تتصاعد بها حدة التمرد هذه الخطوط التي تعلن تمردها على نسق اللوحة وبنائها وإنشائها، ومن هنا تأتي عظمته وإبداعه، كان يقسم اللوحة ليسيطر على المشاعر المتدفقة والأفكار التي تطن في أذنيه، ولكنه كثيرا ما طال الجانبين وتمرد.
ولكنه كان ينجر هو الآخر ويندمج كليا مع لحظة التمرد .
إعمال مهر الدين بقدر ما تشتغل على البنائية في التصميم، لتأكيد حالة الرسوخ في الإنشاء للوحة، إلا أنها تحمل في طياتها مخزونا من الرفض للقهر والاستلاب الذي يخضع له إنسان العصر والغربة التي تجذرت في أعماقه. اننا عندما نتحدث عن التقنية الفنية في بناء لوحته، لا يمكن أن نفصل النص عما يخامر أعماقه من رؤية تجاه الواقع، ورؤيته تجاه إنسان بلاده وإنسانيته المغلوبة على أمرها، تتداخل هذه البنائية الفكرية مع التقنية في الخط واللون والتوازن العام، في تركيب اللوحة بالصيغ التي يستخدمها في بث الرموز والشفرات المستقاة من التراث السومري والبابلي والآشوري، وبالذات الرموز في الوجه الآشوري ( العينان والأنف ).
وهو الأمر الذي يجعلنا لا يمكن أن نعزل المخربشات أو اللطخات اللونية والبقع اللونية، في لوحات مهر الدين عن ذهنية التغريب ودلالات الرفض على الاستسلام ، لأنه لا يملك في الواقع قدرة التغيير، فيلجأ إلى الحلم، وهو دأب كل من فقد الواقع الذي يريد، والعالم الذي يبتغي، وحينما لا تعود هناك مسارات لتحقيق الأفكار، يكون اللجوء إلى الحلم، وإن هذه التفجيرات التي تتناوش مقدمة لوحاته .أو تعبيراته الخطية بالحرف والكلمة، تعابيرعن مختلجات داخلية تتصارع فيما بينها لإظهار عمق مشاعره تجاه قضايا واقعه وشعبه، هي رؤيته الفكرية تجاه ما يحدث وما حدث باستخدام قتامة اللون للتعبير عنها، وهما الدلائل على التراكم المعرفي وخزين التمرد الذي يتوضح في اللون، الذي يسحر العين على الرغم من استخدام اللون الأسود الخطر .. وهنا تكمن قدرات مهر الدين كفنان ملون يعد من القلائل الذين وفروا هذا المناخ للوحة. وإذا أردنا أن نحصي أعداد اللوحات الزاهية الألوان، سنجدها على قلتها تحمل دلالة غربتها، ففيها مرموزات للإيحاء بالفكرة، التي قصد من ورائها تغريب هذه اللوحات عن المجموع العام لأعماله.