ما يزال الانبهار بمارلين مونرو حتى اليوم، و بعد نصف قرن من رحيلها الأبدي، ساري المفعول بالرغم من كل زيف الركائز التي يقوم عليها هذا الانبهار. إذ لم تكن مونرو سوى صورة بالألوان البراقة لإنسانة بائسة لا تنطوي على أي شيء يجعلها جديرةً فعلياً بكل هذا الا
ما يزال الانبهار بمارلين مونرو حتى اليوم، و بعد نصف قرن من رحيلها الأبدي، ساري المفعول بالرغم من كل زيف الركائز التي يقوم عليها هذا الانبهار. إذ لم تكن مونرو سوى صورة بالألوان البراقة لإنسانة بائسة لا تنطوي على أي شيء يجعلها جديرةً فعلياً بكل هذا الاهتمام "الثقافي" على مرّ العقود. و كانت نفسها تدرك ذلك جيداً حين تقول في مذكراتها "لدي إحساس عميق بأنني لست حقيقيةً تماماً .. بل أظن أنني لست إلا نتاجاً سينمائياً فنياً أتقنوا صنعه "!
فلم تكن مونرو ذات نسبٍ كريم، و قد سُجلت باسم عائلة أمها لعدم معرفة هذه بالوالد الحقيقي لابنتها. و أُدخلت داراً للأيتام حين رفضت أمها رعايتها فتقلبت بين عدة عائلات و تعرضت لاستغلال و تحرشات جنسية. كما أن مَن يقارن صورتها الشائعة اليوم بصورتها الحقيقية قبل التحسينات و الشهرة يدرك مدى التزييف الذي تعرضت له لتكون الدمية التي أرادها صانعوها لأسبابٍ لا علاقة لها بالفن أو الجمال! فقد صُنعت، كما يقول النقاد، لتكون "نموذجا للصورة التي كانت تريد أميركا أن تكون عليها بعد الحرب العالمية الثانية .. وكان يتحتم على مونرو ان تبقى دمية تشكل حسب الطلب أمام العالم وعلى شاشات السينما لتصور حالة أميركا التواقة للابهار والاغراء والهيمنة على شعوب العالم". و قد ارتضت مونرو ذلك لأنها، كما تقول، " أحبت هوليود من خلال الأهالي الذين عاشت معهم في المدينة السينمائية الشهيرة"، أو بتعبير آخر وجدت في حضورها السينمائي الصاخب تعويضاً عما عرفته في طفولتها من نبذٍ و استغلال و بؤس.
و لستُ هنا بمعرض الحديث عن سيرة حياة مونرو، و إنما فقط تبيان كيف بإمكان الزيف أن يصنع "أيقونة" لينبهر بها الناس، و يظلون يتحدثون عنها و ينظرون إليها بطريقة أقرب للتعبّد أو التقديس!
وهذا ما حصل، بطريقة أخرى، للفنان الإسباني المعروف سلفادور دالي، الذي أدرك، عن وعيٍ أو اختلالٍ عقلي، بأن كونه رساماً لا يكفي للحصول على المكانة التي يرى أنه جدير بها، و بالتالي فلا بد من شيء من الزيف و المبالغة و السلوك الغرائبي لإبهار الناس و تحقيق تطلعاته إلى الشهرة و المال. فكان كل شيءٍ يفعله، كما تقول أليزابث لَندَي في مقالٍ عنه، " محسوباً مقصوداً به أن يُذهل، أن يُدهش، أن يسلّي. حتى مظهره كان زياً مسرحياً أكثر مما كان لباساً .. و شاربه، الذي استطال إلى حدٍ لافت للنظر و شُمِّع ليكون بطرفين حادين، أو بدلته، التي كانت معمولة من قطيفة ملونة بشكل برّاق و مكسوة بتطريز ذهبي"!
و هناك في وقتنا هذا الكثير من الأمثلة على هذا النوع من الإبهار و الانبهار القطيعي. منها الصورة الداعرة لـ " أيقونات " الوسط الفني الأميركي مثل المغنية مادونا التي نجدها في آخر تجلياتها الاستعراضية و هي تتحدث في واحدة منها "بحزن" عن اغتصابها المذل في شبابها، بينما تقوم في أخرى، وهي في أواسط خمسيناتها، بتقبيل أحد المغنّين في فمه على المسرح بطريقةٍ عنيفة جعلته يشعر بالقرف و الاشمئزاز منها، و تتعرى في ثالثةٍ على الأنستغرام، و حين يحتج البعض على تصرفها هذا على مواقع التواصل الاجتماعي تقول لهم : "لمَاذا لي الحق بإظهار مؤخّرتي وليس صدري؟ هذا النفاق في مواقع التواصل الإجتماعي يتجاوزني وهو بالفعل خارج عن إرادتي. الفن هو الحريّة!"
بينما نجد " أيقونة " أخرى، و هي ممثلة أميركية شهيرة، لا أتذكر اسمها الآن، تتباهى بأنها ضاجعت أكثر من ثلاثين رجلاً ، ولم يؤثر ذلك سلباً في تغطية الإعلام، العالمي و العربي، لأخبارها إن لم يزدها تسويقاً على الصعيدين الفني و الشخصي!
أما المغنية الراقصة ليدي غاغا المعروفة بعلاقاتها الشاذة وتعرِّيها المبتذل الفاضح، فقد بلغت من الأهمية و الاحترام على الصعيد الإعلامي العالمي حداً جعل مجلة فوربس تضعها "في المرتبة الرابعة ضمن قائمة الـ 100سيدة الأكثر تأثيرًاً في العالم، وثاني الشخصيات الفنية النسائية تأثيرًاً في العالم"!
و يشبه ذلك تقريباً احترام رئيس عصابة مافيا، لأسباب كارزمية، أو مقامر ناجح، لمهارته في التلاعب و الغش، أو طبيب "معروف"، لمجرد وضعه قائمة بالجامعات الأجنبية التي تخرج منها في واجهة عيادته الطبية، ليس غير!
و يذكّرني هذا بامرأةٍ سمعتُها تحتج ذات يومٍ من إحدى الإذاعات، بحزنٍ أيضاً، على شتم طاغية سابق اشتُهر بحروبه و جرائمه ضد الإنسانية، قائلةً : "في الأقل، كان رئيسناً يوماً ما"!
و هو أمر ليس بالغريب على نمط التفكير الساذج و النظرة السطحية إلى أحداث الواقع اليومي من منظورٍ شخصي معزول. فقد كنا، و نحن صغار السن، ننظر بشيء من الإعجاب أو الانبهار إلى الأولاد الأكبر منا المشهورين باللصوصية و البلطجة و العلاقات العاطفية غير المشروعة باعتبارهم " أبطالاً " وفقاً لمفهوم البطولة الهوليودي، و ربما بتأثير منه. و هي بطولة زائفة، بالتأكيد، كصورة مارلين مونرو في أذهان الناس، و مكانة ليدي غاغا في قائمة السيدات الأكثر تأثيراً في العالم، و قيمة الرئيس الذي لم يبقَ له من مبررات التقدير سوى أنه " في الأقل " كان رئيساً يوماً ما!
أما على صعيد الصحافة و الشعر، فلديّ شخصياً تجربة حقيقية في إطار الانبهار القطيعي في الثقافة السائدة. فقد لاحظتُ ذات يوم، في الثمانينات أو التسعينات، أن الصحف و المجلات لم تعد تنشر من القصائد في الغالب إلاّ ما هو معقد و عديم المعنى أو غريب الصور ، لمجرد أنه موضة جديدة في الشعر، أو ربما لأهداف خفية وفقاً لنظرية المؤامرة. و كنت أرسل إليها قصائد من شعري فلا يُنشر شيء منها، ( مع أنها لم تكن سيئةً و نُشرت جميعاً فيما بعد في مجموعات شعرية عن مؤسسات ثقافية رسمية معروفة ). فأزعجني ذلك الموقف من شعري، و قررتُ أن أكتب واحدةً بشكل عشوائي و من دون معنى أو إلهام مثلما يفعل رسام سريالي مبتدئ و تُباع لوحته فيما بعد بآلاف الدولارات أو بالملايين! و أرسلت القصيدة إياها إلى أفضل مجلة أدبية عربية تصدر آنذاك. و لدهشتي، نُشرت القصيدة بالفعل و معها .. ليس قبلة، بل شيك بمكافأة طيبة بالعملة الصعبة عن طريق البريد! و أنا أنشر هذه القصيدة بين حين و آخر حتى في وقتنا هذا، من دون أي مشكلةٍ، على الإطلاق!!