فصولٌ من السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون
ربّما كانَ قرارُنا أنا وجوي بالانتقال إلى السكن في الريف واحداً من أفضل القرارات الّتي اتّخذناها في حياتنا بأكملها ، فقد كنتُ أحضُرُ الكثير من الحفلات في لندن و أقابلُ العديد
فصولٌ من السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون
ربّما كانَ قرارُنا أنا وجوي بالانتقال إلى السكن في الريف واحداً من أفضل القرارات الّتي اتّخذناها في حياتنا بأكملها ، فقد كنتُ أحضُرُ الكثير من الحفلات في لندن و أقابلُ العديد من الفتيات الفاتنات في هذه الحفلات ممّن كانت عيونهنّ تتوهّجُ بنار الرغبة في إقامة علاقةٍ معي ولم أكنْ في الحقيقة بذلك الأخرق الّذي يفوِّتُ استغلال بعضٍ من هذه الفرص المتاحة أمامي إذ كنتُ حينها حسّاساً للغاية تجاه فتنة النساء و غوايتهنّ ومليئاً بدفق الحياة الرومانتيكيّة بذات الوقت ، و المؤكّدُ أنّ استقراري مع جوي في كوخنا الريفيّ طرد كلّ هذه الإمكانيّات ووأدها في مقبرة النسيان .
لا بدّ لي هنا القول أنّني منذ المرّة الأولى الّتي لمحْتُ فيها جوي أدركْتُ على الفور انّها الفتاةُ الّتي كنتُ أبحثُ عنها وأنّها كانت تجسيداً حيّاً لمثال المرأة الخالدة و الأبديّة الّتي أطمحُ فيها ولكنّي مع هذا وجدْتُ - مثلما فعل شيللي من قبلُ – أنّهُ أمرٌ باعثٌ على أعلى درجات الحسرة والإشفاق على الذات عندما يتوجّبُ عليك أن توصد بابا أزاء كلّ نساء العالم وتدعهُنّ يمضين في حالهنًّ . عالج بعضُ الكتّاب - من أمثال إج. جي. ويلز وبرتراند راسل – هذه الإشكاليّة بالمضيّ في إقامة علاقاتٍ نسائيّة متعدّدة وترك زوجاتهم يتكيّفْن مع الأمر بمجهوداتهنًّ الخاصّة وبالطريقة الّتي يحببْن ، وعلمْتُ من أخبار النميمة الشائعة أنّ كلّاً من الناقديْن ( فيليب توينبي ) و ( سيريل كونوللي ) ومعهم الفيلسوف ( أي. جَي. آير ) كان يقيمُ نصف دزينةٍ على أقلّ تقديرٍ من العلاقات النسائيّة كلّ حين وكان هذا الأمر سيبدو مؤلماً للغاية لو حصل معي وسيقيم الدليل على بطلان مروءتي فقد كنتُ أعشق جوي وخطفتُها بعيداً عن أحضان زواجٍ هانئٍ تقليديّ مريح وتسبّبْتُ في إفساد علاقتها بعائلتها . وعلى العموم يمكنُ أن أعترف بحقيقة الألم المبرّح الّذي عانيْته بسبب ابتعادي عن الفتيات الجميلات وكان ألمي شبيهاً بالألم الّذي يعانيّه من أضطرّ لبتر ذراعه ، ولا بدّ من الاعتراف أنّ تجربة العيش في كورنوال وفّرتْ لي فرصة مثاليّة للابتعاد عن الوقوع في مصيدة الإغراءات النسائيّة .
كان العيشُ في الريف بالنسبة لي شبيهاً بفانتازيا تحقيق الرغبات المؤجّلة : فقد كنّا نصحو عند كلّ فجرٍ مع صوت خرير المياه في الجدول الّذي ينساب أمام كوخنا ، و كانت الشمسُ تشرقُ على الطرف الآخر من التلّة ، وكان يتوجّبُ عليّ ايضاً بعد كلّ فطور أن أتمشّى بضع كيلومتراتٍ للوصول إلى صندوق بريدي وفي إحدى المرّات فتحْتُ مغلّفاً بنّياً يحوي حزمة موضوعاتٍ صحافيّة عنّي فوجدْتُ لدهشتي أنّ كلّ ما كان يكتبُ عنّي بات أكثر عدائيّة من ذي قبلُ ووجدْتُني حينها في حالةٍ غريبة للغاية : فقبل سنةٍ من اليوم لم يكن أحدٌ قد سمع باسمي ثمّ غدوْتُ نجماً ذا شهرةٍ طاغية وها أنا - بعد عشرة أشهر من جماهيّريّتي المدوّية – أبدو ماضياً بثبات في درب النسيان مثل جنّية أسطوريّة ، فهل أنّ كلّ ما حصل لي كان يعملُ لصالحي ؟ لم تكن ثمّة طريقة محدّدة لمعرفة الجواب الحاسم ولكنّ شيئاً واحداً كنتُ واثقاً منه تمام الثقة : كنّا نُمضي أنا وجوي ربيعاً ساحراً في كوخنا الريفيّ وكنتُ أتمتّع بالهدوء وراحة البال في كورنوال الّتي تبعدُ نحو 300 كيلومتراً عن لندن . كانت معظمُ الحانات في كورنوال عتيقة الطراز وصُفّتْ فيها مقاعد خشبيّة طويلة من خشب البلّوط وسرعان ما أبان سكّانها المحلّيون عن روح الألفة والصداقة الكامنة فيهم و غالباً ما كنتُ أشاركهم لعبة رشق السهام وكان يمكنُ للمرء الاستمتاعُ بوجبةٍ طازجة من السمك والسلطعون على شواطئ كورنوال البحريّة الّتي يمكن رؤية بلايموث Plymouth منها . اشتريْنا سيّارة لقاء أربعين جنيهاً إسترلينيّاً و في الأسبوع الّلاحق لشراء السيّارة مضيْنا أنا و جوي في زيارة إلى القرى المحيطة بكورنوال و كنّا نكتفي بأكل وجبة السمك و البطاطا التقليديّة - أو فطائر اللحم أحياناً – مع البيرة .
كنتُ أعمل معظم الصباح في كورنوال على مجموعة أعمالي اللاحقة لكتاب اللامنتمي ( الّتي أسميتُها المتمرّد أوّل الأمر ) ، وبعد الظهيرة كنّا نمضي للسباحة أسفل التلّة في البحر أو نختار منطقة على الخريطة ونمضي إليها في السيّارة . كانت حياتُنا في كورنوال تبدو مثل عطلةٍ طويلة ممتعة وعندما كنتُ أعمل في المصانع أو مواقع البناء من قبلُ لم يكنْ ليخطر ببالي أنّ الحياة يمكن لها أن تكون ممتعةً على هذا النحو .
تسبّبت أزمة السويس الّتي اندلعت آنذاك في نقصٍ وقوديٍ فادح ولكنْ يبدو أنّنا لم نتأثّر بهذه الأزمة كثيراً في كورنوال ومضيْتُ في إتقان قيادة السيارة بسرعةٍ ملحوظة حتّى أنّني علّمْتُ صديقي ستيوارت هولرويد كيفيّة قيادة السيّارة عندما قدِم لزيارتنا في كوخنا الريفيّ في كورنوال وكان هو بذاته من قاد السيّارة معظم الطريق عندما اصطحبْناه بمعيّتنا في السيّارة عائدين به إلى لندن ، ولكن حصل في طريقِ عودتنا أنّ سيارتنا العتيقة طراز فورد أصابها عطبُ بالغٌ في منطقة ( هامرسمث ) وأبلغَنا أحد مصلّحي السيّارات أنّ إصلاح السيّارة سيكلّف أكثر ممّا يمكنُ أن تُباع به السيّارة لذا قرّرنا بيعها كخرْدةٍ والعودة بالقطار إلى كورنوال و هناك اشتريْنا سيّارة جديدة نوع ( فورد أنغليا ) بالتقسيط . اعتدْتُ على ارتياد إحدى الحانات في كورنوال ولم تكن لتفوتني ملاحظةُ إمارات الاسترخاء والسعادة البادية على وجوه المرتادين : إحساسٌ بأنّ الحياة رائعةٌ وستمضي رائعةً إلى الأبد وكان إحساسي متى ما جلسْتُ وشربْتُ شيئاً في الحانة شبيهاً بإحساسي ليلة عيد الميلاد حيث يستحيلُ العالم عندي حينها مكاناً مسكوناً بالجنّيّات الساحرات الطيّبات ، كما أدركْتُ حينها لِمَ كان والدي يقضي أجمل أوقاته في الحانة وأدركتُ أيضاً لمَ كان معظم الكتّاب – من رابليه و حتّى تشسترتون – قد رفعوا شأن شاربي الخمرة – المعتدلين منهم وحسب – وأعلوْا مقامهم إلى مصاف الأخوّة المتصوّفة .
نُشِر كتابي الثاني - الذي إختار له الناشر غولانز عنوان الدين والمتمرّد – في 21 تشرين أوّل 1956 وكنتُ منذ البدء أعددْتُ نفسي لقبول مطرقة النقد القاسية الّتي توقّعتها للكتاب رغم أنّ داخلي كان يتوهّجُ بجمرة أمل خابية وأتوقّعُ أنّ معجزةً ما بمقدورها إقناع النقّاد بأنّ لديّ ما يستحقّ الإشادة والإطراء في كتابي هذا ولكن سرعان ما تبخّر أملي وأنطفأت الجذوة الخابية داخلي بعد أن قرأتُ نقد فيليب توينبي لكتابي في الأوبزرفر والّذي يصفُ عملي بأنه حاوية قمامة !! ومضى ناقدٌ آخر هو (رايموند مورتيمر ) يقول في الصنداي تايمز بأنّه لم يأنس لعملي الاوّل ( اللامنتمي ) لذا كان من الطبيعيّ أن يقابل أعمالي اللاحقة للامنتمي بقدر هائل من الفتور ويراها مخيّبة للآمال إلى حدّ بعيد ، ولم تكن مواقف النقّاد الآخرين لتختلف كثيراً عن هذا الموقف العدائيّ ، وحصل أن كنتُ قرأتُ آنذاك عن بعض النجوم الأدبيّة الّتي قتلها نجاحُها بعد أن ضاقت ذرعاً بالتفكير في النجاح الّذي ينبغي أن يعقب كلّ نجاحٍ أدبيّ و تيقّنْتُ حينها أنّ ثمن نجاحي - الّذي لطالما حلمت فيه - لو جاء بنهاية بائسةٍ ومأساويّة كهذه فليست لي رغبةٌ في دفعِ ثمنٍ كهذا وفضّلتُ أن أستمتع بخلوتي السحريّة في قراءة كلّ الروايات العالميّة العظيمة الّتي لم أقرأها بعدُ وكذلك سماع الموسيقى الّتي أحبّها وقراءة المؤلّفات الفلسفيّة منذ الصباح الباكر وحتّى وقتٍ متأخّر في الّليل . ولكن ، ما الّذي كنتُ أنتظره بالضبط ؟ الحقّ أنّني كنتُ أرمي إلى قضاء حياتي وأنا اتطلّعُ إلى البحث عن جوابٍ لذلك السؤال الّذي أشغلني و أدهشني طيلة حياتي : كيف يمكنُ أن أحوّل شكل الوعي الّذي أمتلكه بطريقةٍ قصديّة ؟ وهذا هو بالضبط ما وصفه ويلز في مقدّمة سيرته الذاتيّة عندما قال انّ مشاكل الحياة اليوميّة العابرة تنخرُ المثال المتسامي للحياة الّتي لطالما تطلّع إليها بشغف ، وأضاف ويلز " إنّ المثقّف المتفكّر ذا الأصالة ليس بالإنسان العاديّ و لا ينتظرُ استهلاك حياته بطريقةٍ تقليديّة و يتطلّعُ دوماً إلى حياةٍ فوق اعتياديّة Supernormal " وأدركتُ ذات يومٍ - وأنا أقود السيّارة مع جوي وولديْنا - المترتّبات العمليّة لما كان يقولهُ ويلز : فقد كنتُ أعيشُ في مستوييْن متمايزيْن ، المستوى الاوّل عندما أقود السيّارة بطريقة مثاليّة وتلقائيّة وأمارس فعالياتي اليوميّة ، و المستوى الثاني عندما أكون عاملاً مع الأفكار ، وكان ويلز كتب أيضاً في سيرته " ليست لديّ رغبةٌ في العيش ما لم أمضِ في ممارسة ما حسبْتهُ دوماً عملي المناسب ." و كان واضحاً لي آنذاك أنّ العمل في عالم الأفكار والفلسفة هو ما يمثّلُ العمل المناسب لي تماماً وهكذا ترسّخت إرادتي للعمل ومضيْتُ في إكمال مخطوطتي " طقوسٌ في الظلام " ولكن كان يتوجّبُ عليّ قبلها إلقاء بعض المحاضرات في أوروبا : فقبل نشر ( الدين والمتمرّد ) كنتُ دُعيتُ من جانب المجلس الثقافيّ البريطانيّ لإلقاء بعض المحاضرات في أوسلو وهكذا وجدنا نفسيْنا أنا و جوي نحزمُ حقائبنا وركبنا الطائرة المتوجّهة إلى أوسلو مع نهاية تشرين الثاني في ذلك العام وكانت تجربةً ساحرة عندما كنّا نتطلّعُ من نافذة الطائرة إلى سلاسل الجبال المغطّاة بالثلوج.