كثيرة هي الأعمال الفنية التي رأيتها للفنان هنري ماتيس (1869-1954 ) بل أحسب أني قد رأيت معظم أعماله المهمة في متاحف عديدة ومتباعدة هنا وهناك في أرجاء المعمورة ، وكنت دائماً أجد ما يدهشني في لوحاته التي بسط عليها اللون بحساسية عارف ورهافة مُلَوِّن باهر ، هذا الرسام الباريسي الأنيق الذي التفت حوله مجموعة من شباب الرسامين في بداية القرن العشرين ليؤسس المدرسة الوحشية في الرسم ويمنح اللون قيمة جديدة ويدفعه الى مديات لم يصلها مع أحد قبله أبداً ، حتى عدَّه بعض النقاد مُلَون العصر دون منازع .
بشكل شخصي هناك ثلاثة رسامين أعتبرهم أعظم مُلَونين في تاريخ الرسم وهم بونارد وماتيس وشاغال ، لكن مع ذلك يبقى ماتيس أكثرهم حداثة وتأثيراً في فن القرن العشرين ، وكنت كلما أرى لوحاته معروضة في متحف ما ، أفكر مباشرة بلوحات أخرى له تمنيت أن تُعرض قرب هذه لأرى مسار تطوره وانتقالاته الأخاذة باللون وإيحاءاته التي يعبر عنها بخطوط مختزلة وبسيطة . لكن أمنيتي كانت تتبخر بعيداً مثل غيري من عاشقي هذا الفنان ومحبي أعماله . الى أن قرر متحف ستيدليك ميوزيام في أمستردام أن يقيم معرضاً لماتيس بعد 55 سنة على آخر معرض له في هولندا ، كذلك يعتبر معرضه هذا حتى اليوم ، أكبر وأهم معرض يقام له في الأرضي المنخفضة . هل هناك مناسبة أجمل من هذه ؟ وهل هناك معرض يستحق الاهتمام أكثر من صالات مليئة بنشوة اللون وغنج فرشاة هذا الباريسي الذي كان يحيط نفسه بفتيات جميلات كي يتمكن من استحضار الرسم في أجمل حالاته . اذن هو معرض فيه كل سحر الرسم وقوته ، يقام في هذا الوقت ، وقد اختار المتحف له عنواناً موحياً ومؤثراً هو ( واحة ماتيس ) وأية واحة هذه التي صنعتها لنا أصابع فنان قال عنه بيكاسو ذات يوم ( بصراحة ، ليس هناك أحد غير ماتيس ) . وكي تكون للمعرض خصوصية أكبر وفائدة أعم وأشمل ، لم يكتف المتحف باللوحات المئة لماتيس ، بل عرض بين ثناياها مجموعة من لوحات كبار الفنانين الذين تأثروا بأعماله ، وبهذا يمكن مقارنتها مباشرة بلوحاته حيث تعرض معها جنباً الى جنب . وبذلك ربحنا رؤية لوحات أخرى في هذا المعرض لبيكاسو وماليفيتش وروثكو وغيرهم من الفنانين الذين سحرتهم أعماله وتأثروا بها .
ضمَّت أعمال هذا المعرض أجمل أعمال ماتيس التي رسمها عن طريق الكولاج ، أعمالا كبيرة يتضح فيها تأثيرة على الفنانين التجريديين بل وحتى على المصممين ، قام بتنفيذها بعد أن عجز عن الحركة وقضى سنواته الأخيرة على كرسي متحرك . كان مساعدوه يهيئون له الورق المطلي بألون الغواش مع مقص كبير ، فيقوم المعلم بتقطيعها ولصقها على سطوح كبيرة من الكانفاس ، وبهذا ابتكر حتى وهو لا يستطيع الحركة طريقاً جديداً لم يكن في الحسبان ، طريقاً شكل انعطافة كبيرة في مسار الرسم .
تذكرت وأنا أتجول في واحة ماتيس مقولته الشهيرة حين سأله أحدهم عن الطريقة المثالية لرؤية الأعمال الفنية ، حيث قال ( عند النظر الى الرسم ، عليك أن تقطع لسانك ) وها هو في هذا المعرض يستعمل نفس ذلك المقص القديم ليقص علينا حكاية رسام لا يكف عن ابهارنا حتى بعد أن عجز عن الوقوف أمام قماشات الرسم .
متعة حقيقية تبعثها في النفس مشاهدة هذا المعرض حيث نسحب خطانا بين أعماله التي أثرت على قرن كامل من الرسم ، نتجول ونتخيل شيخ الرسامين يمر أمامنا على كرسيه المتحرك مثل طيف أو ذكرى ويترك خيط عطر باريسي أخاذ وسط محبيه .
مقص ماتيس
[post-views]
نشر في: 1 مايو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...