سعد محمد رحيم كانت العائلات العراقية في المدن، قبل اكتظاظها واستفحال أزمة السكن، تحرص على أن تكون لها من ضمن بيوتها مساحات من أرض تستغلها في تنظيم حدائق فيها العشب النضر والأشجار الوارفة المثمرة، والورود بألوانها الزاهية. لكن انشطار العائلات النووية،
وزيادة السكان وتراجع العمران وارتفاع أسعار العقارات أجبرت كثيراً من تلكم العائلات على التضحية بحدائقها، وإن على مضض، من أجل بناء مشتملات وشقق صغيرة عليها، ما حرم المدن من مساحات واسعة خضر تعد ضرورية لصورتها أمام أنظار سكانها وزوّارها. والحديقة هي ما تجعلك تحدق فيها مندهشاً لفرط روعتها وجمالها. يسمّيها أخواننا المصريون بالجنينة، أي الجنة الصغيرة. وتهتم بها الشعوب الشبعانة، المرفهة، وكذلك أولئك الذين يحظون بمتسع فائض من الأرض. وثمة مدن تفتخر بحدائقها الخلابة كباريس وأمستردام وبراغ وغيرها، فيما لحدائق اليابانيين رونقها الخاص إذ تبدو للناظرين فراديس أحلام بحق. تلطِّف الحدائق المناخ وتنقي الهواء وتغدو مصدر بهجة للمتنزهين. ترتادها العائلات في أيام العطل، ويمرح فيها الأطفال، ويلتقي تحت ظلال أشجارها العشاق، ويجد على مقاعدها المتأملون والمتوحدون فضاءً للعزاء. والأحياء التي تخلو بيوتها من الحدائق تظهر موحشة غبراء، تفتقر لحرارة الحياة ونبضها، ولهذا كانت الحدائق جزءاً لا غنى عنه من تشكيلة الخرائط الأساسية للمدن في كل مكان، ومنها مدننا. ومنذ زمن الراحل عبد الكريم قاسم شيدت الحدائق العامة في معظم مدن البلاد، حتى الصغيرة منها. وللأسف اندثر قسم من تلك الحدائق بسبب الإهمال والعطش وعبث العابثين. وفي موسم الحواسم، بعد سقوط النظام السابق، لم تسلم موجودات بعض الحدائق العامة من أعمال السلب والنهب.. فاختفت، بين ليلة وضحاها، الأسيجة والمقاعد وألعاب الأطفال، واقُتلعت الأشجار، فأضحت ما كنّا نطلق عليها تسمية (الحدائق) هباءً منثوراً. وكان هناك في إطار مشروعات الاعمار خلال السنوات الأخيرة، سواء في العاصمة أم في مدن المحافظات اهتمام لا بأس به لإعادة الحياة إلى الحدائق العامة، فجرى بناء الأسيجة لها ووضع المقاعد ونشر لعب أطفال، ناهيك عن إقامة حدائق جديدة، كلفت الميزانية العراقية ملايين الدولارات. وفي الأحوال كلها، لا تعد مثل هذه الكلف تبذيراً. لاسيما أن الناس بحاجة حقيقية إلى مناظر ساحرة، لاشك أن الحدائق توفرها، ليريحوا أعصابهم ويتخففوا من عبء أيامهم وتوترات نفوسهم، في هذا الزمن الصعب، حيث يصنع الإرهاب الموت في الطرقات وينشر الرعب، لكن المؤسف أن عشرات الحدائق التي شُيّدت أو أعيد تشييدها تعرض بعضها لانتهاكات العابثين فحصل تخريب أجزاء منها أو سرقة موجوداتها، وأنهك العطش عشب وأشجار بعضها الآخر، فيما تحوّلت مساحات من جزء ثالث إلى مكبّات للنفايات. نعرف أن بناء حديقة عامة يعد مشروعاً لا يدر ربحاً من أي نوع، باستثناء الحدائق الكبيرة التي تضم مطاعم وكافتريات ومدن وصالات ألعاب وأقفاص حيوانات مثل متنزه الزوراء، غير أننا، هنا، نتكلم عن الحدائق العامة الصغيرة والمتوسطة، المساحات التي تنتشر في الأحياء والمناطق السكنية، والتي تكون بحاجة دائمة إلى وجود فلاحين يشرفون على سقي ورعاية مزروعاتها، والحفاظ على موجوداتها ونظافتها. وفي هذا يجب أن تبقى عيون المواطنين الساكنين بالقرب من هذه الحدائق هي الحارسة، يبادرون الى حمايتها، ويحرصون على نظافتها، لأنهم المستفيدون منها أولاً وأخيراً.
وقفة: الحدائق فراديس الأرض
نشر في: 25 ديسمبر, 2009: 06:52 م