TOP

جريدة المدى > عام > فيزياء الحزن.. والرواية البلغارية الحديثة

فيزياء الحزن.. والرواية البلغارية الحديثة

نشر في: 4 مايو, 2015: 12:01 ص

صدرت مؤخرا الترجمة الانكليزية لرواية الكاتب البلغاري جورجي غوسبودينوف (فيزياء الحزن)، ويعود بنا الحديث عن الرواية الى عام 2010، حين نشرت مجلة الايكونومست مقالة عن (جغرافيا السعادة) حيث رسمت خارطة للاماكن السعيدة والحزينة في العالم، وكانت بلغاريا حسب

صدرت مؤخرا الترجمة الانكليزية لرواية الكاتب البلغاري جورجي غوسبودينوف (فيزياء الحزن)، ويعود بنا الحديث عن الرواية الى عام 2010، حين نشرت مجلة الايكونومست مقالة عن (جغرافيا السعادة) حيث رسمت خارطة للاماكن السعيدة والحزينة في العالم، وكانت بلغاريا حسب المقال من بين (الاماكن الاكثر حزناً) في العالم، وان الشعب البلغاري شعب تعيس وحزين، وبعد ما يقارب العام من نشر المقالة، قام الكاتب البلغاري جورجي غوسبودينوف باصدار روايته (فيزياء الحزن) وفي احدى المقابلات معه، اعتبر غوسبودينوف روايته هذه بانها في جزء منها بمثابة رد على تلك المقالة، وعلى المفاهيم الشائعة حول امزجة شعوب شرق اوربا، وبشكل اساسي فان بطل روايته يحاول ان يروي قصة ذلك المكان (الاكثر حزنا) بالتحديد، ويواجه احزانه، او على الاقل يصنفها بالترتيب ويقوم بوصفها، وقد نالت الروايةعند صدورها في بلغاريا ارتياحا وتقديراعاليين، وقدبيعت جميع نسخ طبعتها الاولى في يوم واحد، واصبحت الكتاب الاكثر مبيعا لعام 2012، ونالت اغلب الجوائز الادبية في بلغاريا، وتم ترشيحها لجوائز ادبية اوربية مرموقة.
النجاح الذي احرزه الكتاب عالميا، شكل مفاجأة للكاتب الذي (وحسب قوله) من بلد لا يهتم كثيرا بالادب، ولد غوسبودينوف في يامول، وهي مدينة صغيرة في جنوب شرقي البلاد، وقضى ردحا من طفولته في توبولوفوغراد، وهي بلدة صغيرة تقع بالقرب من الحدود مع تركيا، وكانت تتجاور في تلك البلدة المناظر القروية مع مظاهر الحداثة مما اسبغ الكثير من المتعة على اعماله التي تناولت الحياة في تلك البلدة، وبعد ان اصدر ديواني شعر لاقيا استحسانا كبيرا، فان صدور روايته (حياة حقيقية)في عام 1999، جعله يقف في الصدارة من ابناء جيله من ادباء بلاده، وقد صدر الكتاب في اعقاب التحول نحو الديمقراطية الذي شهدته بلغاريا، و استوحى المؤلف عنوان كتابه من عبارة لميشيل فوكو، اوردها في كتابه (التاريخ الحقيقي ليس سوى تسجيل المرئي من الاحداث) والكتاب كان عبارة عن تجميع عدة اشياء، مقالات قصيرة، استطرادات، خرافات، قوائم اسماء، تأملات لما فوق الخيال، وكان موضوع الرواية يتناول فسخ بطل الرواية لزواجه، يخبرنا بطل الرواية ان رغبته الاكبر هي في كتابة رواية عن بدايات الاشياء، على الرغم من شكوكه مرارا وتكرارا بقدرة الرواية كنوع ادبي على فعل ذلك، ويتساءل (كيف يمكن حتى لفكرة رواية ان تكون ممكنة حينما تختفي الاعمال العظيمة، ولاتتبقى سوى مفردات الحياة اليومية) انها (الحياة اليومية) هي ما يشغل بال غوسبودينوف، وهو ما عبر عنه في مقالاته وقصصه القصيرة ومسرحياته والسيناريوهات التي كتبها.
توثيق الحياة اليومية يعني انك تتواصل مع مفردات (الحزن) في بلغاريا، والتي هي - الى المدى الذي لا يمكن فصلهما- ليست مسألة لغوية بقدر ما هي معضلة ميتافيزيقية، بل ان الامر يصل الى الحد الذي لا يجد فيه من يترجم الرواية مرادفا لكلمة (توغا) البلغارية،كما هو الحال مع كلمة (اوزان اي حزن بالتركية عند الروائي باموك او مفردة نابوكوف الروسية توشكا) وهو ما يجعل البعض يفضل ابقائها على حالها كما هي في اللغة البلغارية، بدلا من ترجمتها الى حزن او أسى او التوق (ويبدو ان توغا مقاربة للكلمة العربية توق) الى اشياء معينة لن تحدث ابدا، ادراك مفاجئ بان الحياة تمضي وان هناك اشياء معينة لن تحدث لك ابدا، لاسباب شخصية وسياسية وجغرافية، يقول غوسبودينوف (هذا الحزن لا تختص به بلغاريا لوحدها) ففي زمن القسوة الذي يهدد وجود اوربا باكمله، فان فكرة الفناء تجد صدى معينا لها في بلد تتحول فيه المناظر الطبيعية الجميلة الى انقاض واطلال وخرائب من جراء تلك الايديولوجيات الغامضة المبهمة، ووعودها الفاشلة، وتتحول المعالم الاثرية (الاشتراكية) الى منتجعات مهجورة، وتزدهر المجمعات السكنية نتيجة الطفرة العقارية التي خلقها اقتصاد السوق.
يعارض غوسبودينوف تماما، الاسهاب في السرد، وبدلا منه فانه يلتقط لحظات مختلفة ومتنوعة، وكما في (رواية حقيقية) فان بطل (فيزياء الحزن) يدعى جورجي غوسبودينوف، وكما في الرواية السابقة فانه احيانا الكاتب نفسه واحيانا ليس هو، قدوة غوسبيدونوف في الكتابة هو الروائي بورخس، المولع بالتلاعبات المراوغة والخيال المبالغ فيه، ومع كل ولع غوسبودينوف بالاحزان، الا انه يحتال عليها ايضا، وغالبا ماكان يسخرمنها كثيرا، ويسمي غوسبودينوف هذه الرواية،بـ(رواية متاهة)، حتى ان عناوين بعض اجزائها كانت (ممر جانبي) و(محطة وقوف) ويرفض البطل القبول بالطابع الحزين لها، (حاولت ان اترك مجالا لاشياء معينة كي تحدث،) مثل (فجوات اكثر، ممرات اكثر، اصوات وغرف، احداث مفتوحة، وكذلك اسرار لا يتم الكشف عنها).
هذا اللعب بالسرد سمح لغوسبودينوف، بمحاكاة التاريخ المعاصر لبلغاريا الذي لم يكن حسب قوله زاخرا بالاحداث، حيث مرت الحقبة الشيوعية من دون الاحتجاجات الحاشدة التي هزت أجزاء أخرى من الكتلة الشرقية. و في عام 1989، كان سقوط النظام "سلسا جدا".
تحاول روايته (حياة حقيقية) ان تتلمس نسيج الحياة الذي تبدو فيه الأحداث التاريخية في العالم وكأنها لم تحصل الاعلى القليل من الثمن لملء ما يسميه، في رواية "فيزياء الحزن"، "المساحة الفارغة... ما بين اسطنبول وفيينا، وبودابست"
رواية واسعة جدا، تقفز بالقارئ عدة خطوات الى الامام، وتعيده بخطوات مضاعفة الى الوراء، والرواية تتتبع ملامح حياة جورجي، بدءا من ولادته، وحتى سنواته الدراسية وخدمته العسكرية ابان الحكم الشيوعي، إلى مرحلة البلوغ ككاتب ناجح وسوداويته التي تكبرعلى نحو متزايد. في مرحلة الطفولة، كان جورجي يعاني من هوس يجعله يرغب في تجربة كل شيء من حوله: أفراد الأسرة والجيران، والحيوانات، وحتى جرعة المسكر الذي يبتلعه جده كعلاج لقرحة المعدة. ومع تقدمه في السن بدأ يفقد تلك القدرة، وعوّض ذلك الامر بأن أصبح مهووسا بجمع قصص الآخرين. كتب الرواية وهو في منتصف العمر، "وكان كثير التردد والقلق، "وكان يمضي كثيرا من الوقت في قبو منزله. كان يعاني من "عقدة الشعور بان العالم على وشك الفناء،" فكان يقوم باكتنازالقصص والتجارب عن نهاية العالم التي يشعر كما لوانها وشيكة الحدوث، على الرغم من ان شكل تلك النهاية لا يزال غير مؤكد: فقد تكون من جراء ظاهرة الاحتباس الحراري، او من جراء حرب نووية. ومثل كتاب "رواية حقيقية"، فان هذا الكتاب عبارة عن تجميع عدد من اجزاء متناثرة تلتحم فيما بينها، لتكوّن نوعا من رواية وعظية تربوية محبطة، يحاول فيها الراوي تفهم اسباب حزنه وشعوره بالعذاب.
عندما نصل الى منتصف رواية (فيزياء الحزن) نكتشف ان لجورجي ولد شاب وهذا الامر يخلق عنده رغبة ملحة وبعض الهوس بالكتب، خصوصا تلك التي تتناول الاطفال المنبوذين، والشخصية الرئيسية من بين هولاء الاطفال هومينوتوار، وهو طفل عمره ثلاث سنوات، محتجز لوحده في قبو.
اما ابنة البطل فلا يأتي على ذكرها الا في صفحات قليلة من الرواية، ولكنها تكون بمثابة ادريان في الاسطورة اليونانية، التي تنقله من الماضي المتشابك المعقد، فتفك عقده وخيوطه المتشابكة (كما في الاسطورة) الى اللحظة الراهنة.
دفعت الأحداث التي شهدتها بلغاريا غوسبودينوف لمزيد من التأمل. وفي شباط 2013، قام بنشر مجموعة من المقالات والقصص تحت عنوان (الأزمة غير المنظورة)، والذي جادل فيه بأن وراء الأزمة المالية لعام 2008 هناك ازمة اخرى، أزمة أكثر تدميرا، "وفي نفس الأسبوع الذي تم نشر الكتاب فيه، اندلعت احتجاجات في صوفيا أدت في وقت قصير الى اسقاط حكومة يمين الوسط. وفي مقابلة معه قال غوسبودينوف "لدينا فقر، لدينا يأس"، "ولكن علاوة على ذلك لا يوجد أي ضوء في نهاية النفق". والسؤال، هو، "ليس من سيدفع لي ثمن فاتورة الكهرباء"،- وقد كان ارتفاع أسعار الكهرباء هو ما تسبب في الاضطرابات - ولكن السؤال هو(من سيدفع ثمن حياتي البائسة) وبالنسبة لغوسبودينوف، فان الأزمة هي فكرية واخلاقية وليست فقط اقتصادية. والبديل للمستقبل المتخيل هو العودة إلى ماض متخيل: الحنين الى النوادي الليلية والبارات ذات الطابع الاشتراكي "إن تسويق الحنين اسهل من تحليله"، و المخيف بشكل أكثر، هو ما يسميه غوسبودينوف "الاعيب" القوميين، وأوهام العظمة التي بدأ حزب اتاكا اليميني المتطرف ينشرها بين صفوف البلغار عن طريق استعادة ماضي بلغاريا (المجيد)، وقد اكتسب هذا الحزب نفوذا في الائتلاف الذي تشكل بعد احتجاجات شباط.
ان كلا من الحنين الى الماضي وتغذية الشعورالقومي، هي محاولات للهرب من الاسى و الحزن الموجود في الوقت الحاضر والتغاضي عنه. ومقاومة تلك المحاولات تتطلب تقّبل واحتواء ذلك الحزن، وسعي جورجي الحقيقي في روايته "فيزياء الحزن" هو العثور على طريقة للتعايش مع هذا الحزن، لتمكينه من أن يكون مصدرا للتعاطف والتأمل النافع والمفيد، وعلاج وترياق للسياسات العدوانية و "نصائح السوق " -و ليس ان يكون الحزن سببا لـ" الرعب والخوف المتعاظم".
 عن: مجلة النيويوركر

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram