لا داعي للتبرير، والذرائع مهما انطوت عليه من مسوغات واضطرارت، جديرة بالتفهم، من قبلي، على الأقل، قد تخفف من غلواء النقد الصريح، الجارح، لكنها لا تلغيه، فالكتابة قوامها النقد.
سمعت، قبل أيام، ما قلته بشأن صورتنا، نعم صورتنا، وما تختزنه من ألم يستعصي على الوصف، لكنك، للأسف – يا صديقي العزيز – لم تشر إلى أسباب ألمك، فقد كان حذقك في تصويره، الماهر/ الماكر، يعوزك عند لحظة الحقيقة وأنت تتحاشى ذكر الأسماء والمسميات، ومن ناحيتي أدركت لماذا تكتفي بالتوجع ولم تسمِّ أي شيء باسمه.
لقد مرت علينا دهور، بعمر النسور، ونحن نلوذ ببعضنا البعض نبحث عن زاوية مظلمة نتبادل فيها كراهيتنا للسلطة القائمة، أو للدولة الفاشلة برمتها، يربت أحدنا كتف الآخر ويهدئ من مرارته إلى الحد الذي يستبطن التواطؤ.
ثمة معركة، خضناها، كلنا، مقتنعين بأن خوضها ، كما خضنا، خطوة أولى نحو تحويل المستنقع إلى ينبوع صافٍ يسقي جدب الوطن ويحوله إلى جنة عادلة "من كل حسب قدرته لكل حسب حاجته".. المعركة بطرفيها: الجلاد والضحية، في بلد لا يمكن للسياسة فيه غير أن تكون بين جلاد وضحية، ببراءة مشهودة في تجربتنا المريرة، تجربة آلاف المناضلين مثلنا، التي أعتز بها رغم مرارتها، جزءاً من تكويني الشخصي وتربيتي الذاتية.
وإذ تبثني شكاتك وأبثك شكاتي نتوقف عند الحد الفاصل بين الحقيقة المرة واختها الحلوة.. أختها للترويح عن تعب التاريخ والتمتع بمذاق مريح ومستساغ، فمن يستمرئ المرارة، مرارة الحقيقة، يا صديقي؟
أعرف أنك من المولعين بنسبية الأشياء، مثل الكثيرين، فما أن أقول الحقيقة حتى تدحضني بحقيقة مضادة، فيكف الجدل عن محاولته بلوغ المنطقة الوسطى ليقف عند المفترق المعتم، حتى نعود إلى كلينا التقليدييْنِ: عراقييْنِ لم يألفا الحوار في الهواء الطلق.
ما أن نختلني، أحدنا بالآخر، حتى تتفجر شتى أنواع اليأس والغضب والأمل، وأنت، تحديداً، تختار أقصى يساريتك، بل راديكاليتك لتنسف، كما فعلت في العام الثالث والستين بعيد شباط البعثيين الشهير، كل ما في متناول يدك من ترسيمات السلطة الفاشية ورسومها ورموزها، بقنابلك المولوتوف، لتخرج محطماً ووحيدا ويائساً بعد سجن رقم واحد وسجن بغداد وسجن الحلة وسجن نقرة السلمان من دون أن تجد حتى غرفة صغيرة عارية الجدران تضع فيها جثتك الخائبة.
ما الذي جرى بعد سنوات الجنون تلك.. الجنون بأنواعه: جنون الجلاد وجنون الضحية والجنون الحالم والجنون الموقف؟
- العقل!
هل يعني العقل أن تبتر ذاكرتك وتنسى تاريخك وتنزع وجهك؟ ما القناع إذن؟
هل هو وجهك ذاك أم وجهك اليوم؟
أين نحولك الوسيم وعيناك الذكيتان وزهدك الغامر وملابسك الفقيرة وكتبك الكبيرة وأحلامك الكثيرة؟
أراك، اليوم، بكرشك المتدلي وبشرتك اللامعة وعطرك الفواح وربطة عنقك الثمينة على ياقتك البيضاء المنشاة التي كنت تحذرني منها، أنا تلميذك غير النجيب.
- العقل؟
هل يعني العقل أن تصبح الآن مع الجميع بعد أن كنت ضد الجميع ثوريا يلوّح للعدو والصديق بمطرقته ومنجله؟
كنت تحرضني على أن أنضم، معك، لنغير "من الداخل" فاقتنعت بمقترحك لكنك تركتني لتغير "من الخارج".. وأنت الذي تغيرت "من الداخل" و"من الخارج" وبقيت "الحال" كما هي بل إلى الأسوأ.
كيف استقمت واتسقت وساومت وغلّست و"دوّرت" كل الزوايا الحادة حتى بدت لك الدائرة أكثر الأشكال الهندسية واقعية ونفعاً.
من منا الناجح؟
أنت بما حققت من سلطة ونفوذ وجاه ومال أم أنا الذي لا يملك غير الكلمات أفكاراً لأن قوام الكتابة هو النقد؟
أم أن الأمور بنسبيتها كما صرت تكرر؟
رسالة إلى صديق سابق
[post-views]
نشر في: 4 مايو, 2015: 09:01 م