كانت مفاجأة كبيرة وقعت عليّ، عندما اكتشفت وأنا أبحث في الويكيبيديا عن سيرة حياة برونو كرايسكي الذي مُنحت لي الجائزة التي حملت اسمه، أن سيرة حياته مكتوبة بثمانية وثلاثين لغة، بإستثناء لغة واحدة: اللغة العربية. كيف حدث ذلك؟ كرايسكي صديق العرب في قضاياهم، صديق عرفات الشخصي، أحد أوائل السياسيين في العالم الداعين لحل عادل لقضية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، أن كرايسكي هذا لا تعريف له باللغة العربية؟ هل لأنه يهودي الأصل؟ هل لأن من يدعو للسلام، لحل الدولتين، هو مكروه عند دعاة الحرب والعنصرية؟ في رحلتي الأخيرة إلى بالتيمور، والتي تحتل حسب تصنيف الشرطة الفدرالية المرتبة الثامنة بمعدل الجريمة في أميركا، بسبب حرب عصابات المخدرات، أمر غريب، في مدينة تبعد بضعة كيلومترات عن فورت ميد، مقر أن أس أي؟ اقول في بالتيمور التي تحولت إلى مدينة أشباح، بأحيائها المهجورة، يعثر المرء في شمالي المدينة، في الحي الجامعي، على "ريد أيماس" واحة سلام أشبه بالجنة، بسترو مع مكتبة لبيع الكتب وصالة تُعقد فيها القراءات كل مساء، وشكراً للعم غوغل حيث يستطيع المرء قراءة سيرة "أيما الحمراء" هذه، الفوضوية التي دوخت في نضالها أميركا يوماً ما، لكن جملة قالتها علقت بذهني أكثر، لهذا السبب دسست لكم هذه القصة المتداخلة دون تحذير، الجملة تقول: ليست هناك جريمة أكبر من التجاهل. والآن أنظروا معي، يحاولون محو برونو كرايسكي عربياً وعبرياً. طرفا الصراع المتحاربين يتجاهلانه. أية جريمة! كما في التراجيديات اليونانية، وحسب أرسطو، لا تأتي فلسفة المأساة للسخرية من نقاط الضعف في شخصية البطل، وإنما من حسناته، الناس لا يتورطون في المأساة بسبب عيوبهم وإنما بسبب فضائلهم. وهي سخرية القدر هذه بالذات، التي تزيد من عمق الشخصية، من قوتها في عيوننا، على عكس ما يظنه الذين يعاقبونها لفضيلتها!
سيداتي سادتي، كل تلك هي مصائر بشرية متداخلة، فهل هناك من يعيب عليّ إذن، أنني لا أروي بخط مستقيم، دائماً بتعرج وتداخل حتى أن البعض يشعر بالدوخة بالإضطراب؟ لكن مهلاً، ألا يذكركم ذلك بالرقصة التي أحببتموها منذ الطفولة، رقصة الفالس، قبل ايام كتبت لي قارئة معجبة دون أن تدري أنني سألقي كلمة في عاصمة الفالس، ما يلي: في النهاية رأيتك مثل راقص وأنا القارئة سمحت لك أن تقودني للرقص. أتخيل خلال ذلك رقصة الفالس التي عشقتها في طفولتي وفي الشباب جداً: لا يرقص المرء بخط مستقيم، إنما بالدوران وجر الأقدام، حتى الدوخان. في نفس الوقت يبعث ذلك نشوة وعلى الراقصة أن تكن وداً للراقص ، أما هو فعليه أن يفهم جيداً بفن الرقص، لكي يستطيع الإثنان تسليم أنفسهما للرقص. وبسبب قطع الصالة طولاً وعرضاً أثناء الرقص، يتعرف المرء على كل المكان، كما لو أنه صنع تأملاً صورياً عنه أو عرف حجمه في تخطيط. هذا ما حدث لي بالضبط عند قراءتي لكتابك، أتذكر وأنا أكتب إليك، كيف أنني أثناء قراءة الكتاب لم يكن عليّ التوقف، واستطيع الادعاء، استطعت بهذا الشكل كما الراقصين والصالة التعرف عليك وعلى بلادك بالإحساس. نعم أرقام السنوات، الأسماء والحوادث ستتضارب أخيراً في رأسي، لكن ذلك ليس مهماً، لأن في المحصلة يستطيع المرء على المستوى الآخر أن يفهم أكثر مما يفهمه عن طريق الرأس. أليس كذلك؟
سيداتي سادتي، راقص الفالس ينحني أمامكم، كانت تلك هي آخر دورة له معكم في هذا المساء، مرة أخرى، أشكر لجنة التحكيم، كم هو جميل أنها اختارتني. هذه الجائزة هي بالنسبة لي وكتاباتي ليست شرفاً واعترافاً فقط، بل هي بشكل خاص تحفيزاً وتكليفاً لمواصلة الكتابة والنشاط من أجل التفاهم بين الشعوب والسلام، والكفاح ضد الاتجاهات الأوتوقراطية والعنصرية في السياسة والمجتمع .... كما أنها مناسبة لي لتعلم فن رقص الفالس بشكل جيد، إذا سمحتم لي بذلك؟ ... أو أكثر إذا سنح الوقت لرفيقة الرحلة وعلمتني بعض دروس فن الفالس؟
( نص الكلمة التي ألقاها الكاتب باللغة الألمانية، بمناسبة تسلمه «جائزة برونو كرايسكي« العالمية للكتاب لعام 2014، عن روايته «بغداد مارلبورو»، في قصر بلدية فيينا في 9 آذار 2015. ).
أفكر هنا برقصة فالس 5-5
[post-views]
نشر في: 5 مايو, 2015: 09:01 م