TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > مها مصطفى وابراهيم رشيد.. وانتظار قيام بابل من جديد

مها مصطفى وابراهيم رشيد.. وانتظار قيام بابل من جديد

نشر في: 9 مايو, 2015: 12:01 ص

ترجمة: آدم البياتي
 
في يوم ضبابي قاتم من اول شهور السنة، كنا انا ودراجتي نخترق الطريق المؤدي الى حيث يقطن ويعمل الفنانان مها مصطفى وابراهيم رشيد... شوارع خالية وندية، واشجار غادرتها الطيور، قفاز وحيد يتدلى من غصن شجرة، يفصح عن ثقل الرطوبة الت

ترجمة: آدم البياتي

 

في يوم ضبابي قاتم من اول شهور السنة، كنا انا ودراجتي نخترق الطريق المؤدي الى حيث يقطن ويعمل الفنانان مها مصطفى وابراهيم رشيد... شوارع خالية وندية، واشجار غادرتها الطيور، قفاز وحيد يتدلى من غصن شجرة، يفصح عن ثقل الرطوبة التي تخنق المكان. كلب اسود بسلسلة ينتهي طرفها الآخر بأرض مكسوة بعشب اخضر نقي، يتفحصني بعينين متسائلتين..ظلا امرأتين مجهولتين تمرقان امام عيني، ليختفيان سريعا في الضباب المتكاثف... اسمع اصواتا تصعب معرفة الأفواه التي تطير منها في بحر الضباب الذي لا يرينا سوى الظلال الرمادية التي تمر امامي، احاديث مهموسة ترفرف بعيدا، والأرض التي تحتي تبقى الحقيقة الوحيدة التي يمكن الاتكال عليها.
في مثل هذا الضباب لايمكن ايجاد سوى آنية اللحظة الخاصة. فالجميع يبدون وكأنهم غلفوا بألياف القطن الندية... الوقت يبطئ ويبطئ فمنحنياته الحادة قد سرقت. والآن حينما ادخل مسكن مها وابراهيم انفض عن نفسي وثيابي هذه الرطوبة واركلها بعيدا.. كل شيء قد توضح الآن لي.. الألوان تولد من جديد.. والأشكال تكتسب لمعانها.. والزمن الحالي يفتح نفسه للتاريخ الذي يمتلكه الجميع اينما وجدوا، فها قد دار الزمن من جديد . الاثنان من العراق، بلاد مابين النهرين، تلك البلاد التي لاحت لنا بعيدة، بعيدة، في الزمان والمكان، والتي اصبحت في ايامنا هذه اسخن نقطة حدث سياسي.
لهذا كله ولشدة وطأة الحرب وماحدث برمته، انحاز مها وابراهيم لحياة المنفى، انحيازا اضطراريا. وكانت المحطة الأولى في دربهما الطويل عمان، عاصمة الأردن والتي صارت ملاذا للكثير من المثقفين والمفكرين العراقيين. بعدها وجدا نفسيهما في السويد تضمهما مدينة مالمو التي تنام وتصحو على صوت البحر. هنا وجدا سكنا دافئا وورشة عمل في الوقت ذاته، فاختلطت حياتهما بالعمل معا في تكافل واتحاد وثيق لايمحي خصوصية او يبعد اختلافا في الأسلوب والتعبير. الاثنان في وجد: رسم ونحت، مها تعزف منحوتاتها وابراهيم يصدح بألوانه على اديم المادة. الاثنان معا في فيض عارم يبهج القلب ويبهر العقل.
في مدينة (لوما) نجد اشرعة مها تخفق في مواجهة ريح البحر في مشروعها النحتي المسمى "ثلاثة اشرعة مع الشمس" والمقام في اجمل ساحة في المدينة. الرسم ليس شاغل ابراهيم الوحيد اذ انه يكتب ايضا عن الفن، وقد اراني اليوم مقالة تتناول العلاقة بين الفن التشكيلي العراقي الحديث والحداثة الغربية. من غيرشك فان مثل هذا الموضوع يدفعني فورا الى السؤال عما سيتعلمه سليل بابل القديمة هنا، حيث كانت الآلهة هناك او بعضا منها قد اتخذ شكلها الدنيوي. هناك حيث تأسست اول حضارة مدنية وخلفت اول ملحمة في التاريخ "ملحمة كلكامش". ماذا سيتعلم حامل ارث هذا التاريخ في اوربا شهوة القسوة واللا الوهية؟ لعلني سأجد نفسي منتظرا لجواب او حتى لبذرة تقودني الى جواب، في اعمال مها وابراهيم التي اتشرب لها من خلالها بكل حماس.
بابل تحت قدم الزمان
تنتظر الانبعاث، فياعشتار
قومي املئي الجرار
(عبد الوهاب البياتي)
في اعمالها النحتية تفكر مها جزئيا بان تحل اشكالياتها الفنية، او انها في طريقها الى المواجهة بين خصوصيتها من جهة وبين التجارب الغربية من جهة اخرى. هي تبحث عن الأشككال الأولية القديمة او الفطرية ومن خلالها ايضا –ان امكننا القول- تفريبا كما فعل الفلاح الروماني والنحات الشهير برانكوزي او بعض من السورياليين، الا ان مها لاتقع تحت سيطرتهم بل تنطلق من روحها وخصوصية فطرتها لتضمن اعمالها وظائف رمزية قوية ومهمة.
طريقتها المبكرة لخلق شكل او صورة تقود التفكير الى فن الحياة. وهي تقول بأنها ترتبط بصلة وثيقة بالتصورات التي وصلتها من عراق مابين التاريخ، عراق الحضارة الأولى وبلاد مابين النهرين. بعض من اعمالها يذكرنا بمصادر او بدايات اللغة المكتوبة، او بالرقم وبالالواح الطينية البابلية على سبيل المثال ومع اشكال هندسية طبيعية عملت مها في وضعها في حالة تضاد مع بعضها البعض، لتقترن شرطيا بتباينات او تناقضات اولية. خذ على سبيل المثال لا الحصر: هروب-استلقاء-موسيقى، حياة- موت. وهي غالبا ما تستطيع ان ترينا هذه التباينات ( تباينات غريبة لكنها في توافق ايضا) بطريقة عفوية ومعقولة وممكنة. وكمثال على هذا فان الشكل النحتي المصبوب في قالب كغصن شجرة مثلا، يقودنا الى التفكير بجزء من اجزاء العظام في الهيكل العظمي (هل غصن الشجرة هو الذي يشبه هذا العظم ام العكس هو الصحيح؟) او من خلال صناعتها لوسائد يمكننا منها رؤية وضع الرأس ملقى باسترخاء فوقها.
الآن ارى وانا امام ادراجها السرية المغرية والمثيرة، اقول بأنني عاجز عن قول اي شيء، ربما يكون ذلك من خلال امكانية الروح الشعرية الكامنة في عملها.
وبللي شفاه هذا الأسد الجريح
وانتظري مع الذئاب ونواح الريح
ولتنزلي الأمطار
في هذه الخرائب الكئيبة
(عبد الوهاب البياتي)
يمتاز فن ابراهيم رشيد بالرحابة والسعة والشمولية فضلا عن العفوية. وهو قد خاض تجربته بتطور سريع (يستند حكمي على الأعمال التي رأيتها) لكنه تطور خلاق يصب في الطريق الصحيح. وقد تأثر في بداياته بالفنان الأسباني بابلو بيكاسو، هذا الى جانب انشغاله بحب ورغبة بالاشكال التعبيرية من خلال سيل عارم من الألوان المتفجرة والتي امدته بها الأنطباعية، وصولا الى الرسم التجريدي الذي يمارسه اليوم ويقضي معه معظم حالات وجده وابداعه.
بالنسبة اليه فهو لايقر بوجود حدود واضحة وجلية بين المدارس الفنية والاساليب والتجارب اذ يعمل ابراهيم بنبض قوي واندفاع مدروس وبطريقة لاتلغي العقل او تهمل الأدراك. فهو يعي مايفعل ويعامل ادواته التعبيرية بثقة بارعة ومهارة متقنة.
كل لوحة من لوحاته تبدو وكأنها احتفال مقدس وتبجيل لعملية الخلق اللامشروطة. ولهذا يسهل علينا تصور اعماله بطريقة حرة تمدنا بالمزيد من الوعي والرغبة في فهم الموضوع الذي امامنا والتعامل معه بروح مشرعة. فأعماله يمكن ان نراها وكأنها رمز انساني عام او خاص، ان رغبنا بذلك او اية حالة حياتية او ميتافيزيقية. وكمثال على عملية الخلق اللامشروطة فإن الماء الذي يبجله بقدسية في سلسلة طويلة من اعماله المرسومة بمادة "الاكريليك" هو العنصر الذي يفيض بغزارة، يصير نهرا عارما يجرف امامه كل اوساخ الدنيا ليجعلنا نرقص مع الصفاء والنقاء. هذا المطر الخلاق رمز الخصب والعطاء، واهب الحياة، هو انهار الجنة الأربعة.
اهم الآن بالخروج عائدا ثانية للضباب الكثيف الذي يخفي شكل الشوارع، الا انني محمل هذه المرة بعينين عايشتا بسعادة غامرة الرسومات والأعمال النحتية التي تفحصتها وتأملت ابعادها. مها مصطفى وابراهيم رشيد فنانان يمثل الفن بالنسبة اليهما-بوضوح ظاهر وجلي- ليس فقط طريقة للحياة بل هو الحياة نفسها. فهما يتعاملان بمهارة فائقة مع الفن والحياة، الشكل والضوء من جانب والليل والضباب من جانب آخر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

التعديل الوزاري طي النسيان.. الكتل تقيد اياد السوداني والمحاصصة تمنع التغيير

حراك نيابي لإيقاف استقطاع 1% من رواتب الموظفين والمتقاعدين

إحباط محاولة لتفجير مقام السيدة زينب في سوريا

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram