في بداية شغفي بالرسم ، وانا صبي صغير ، كنت أجمع مصروفي اليومي الذي أحصل عليه من أمي وأضعه بحذر شديد في زجاجة خضراء طويلة ، كنت قد ثقبت غطاءها العريض بشكل يكفي لدخول القطع الصغيرة . إضافة الى ذلك كنت أحصل منها على بعض العلاوات السرية في بعض المناسبات والتي تأخذ طريقها في النهاية نحو فوهة هذه الزجاجة السحرية الخالدة في الذاكرة ، كنت أطمح من خلال ذلك لشراء كتاب ملون فيه لوحات الرسام دافنشي ، هذا الكتاب الذي رأيته في مكتبة في بداية شارع السعدون في بغداد ، وقتها كنت بصحبة ابن عمتي الكبير الذي رافقني لشراء حذاء جديد لي بعد أن أرسلني أهلي معه لهذه المهمة . هكذا صارت صفحات كتاب دافنشي تتوالى في ذهني وكذلك دراهم أمي تتدفق نحو الحصالة . أخيراً اكتملت الدراهم اللازمة ، لكن كتاب دافنشي لم ينتظرني طويلاً في محل بيع الكتب ، عندها قررت أن أشتري كتاباً عن فنان آخر تعرفت على اسمه هناك لأول مرة ، أنه ريمبرانت . وهكذا تعرفت على ريمبرانت وحصلت على أول كتاب فني في حياتي بفضل أمي وبفضل عنايتها واهتمامها . بعد سنوات وحين بدأت موهبتي في الرسم تتطور فكرت أن ألوح لها بمنديل محبتي واجعلها فخورة بي بالفعل ، حتى جاءت اللحظة التي أسحب فيها خطواتي نحو باب البيت أحمل هديتي الأولى التي حصلت عليها من المدرسة بسبب رسوماتي التي عرضتها هناك ، وقد رأيت في عينيها فرحاً كبيراً بسبب تميزي عن زملائي وكذلك لأنها رأت أن موهبتي بدأت بالتفتح والظهور .
كانت أمي تحتفظ بلوحات كلاسيكية في بيتنا القديم ، هي في الحقيقة نسخ رسمتها عن ريمبرانت وموريلو وأنا في المدرسة لتطوير مهاراتي في الرسم على يد الأساتذة الكبار ، كانت تعلقها في غرفة المعيشة وتتباهى بها أمام الضيوف ، لكني حين انتقلت الى الرسم الحديث كنت أقول لها أن زمن هذه الرسوم الواقعية قد انتهى يا أمي والآن هو زمن الفن الحديث . كانت لا تفهم سر تعلقي بالوجوه المشوهة التي كنت أرسمها لكنها في نفس الوقت كانت تثق بي ثقة كبيرة جداً ، الى أن سمعتها ذات مرة وأنا أهم بالنزول من مرسمي الذي يقع في الطابق العلوي من البيت ، تهمهم مع نفسها بعد أن أُعجب أحد الضيوف باللوحات الكلاسيكية وتقول ( المساكين لا يعرفون أن الرسم الحقيقي موجود في الطابق الثاني من البيت ) وأخذنا نضحك معاً على عتبات السلم وكأننا نحيك مؤامرة على الضيوف .
أتذكر الآن يوم افتتاح معرضي الشخصي الأول في قاعة التحرير وأنا أعود متأخراً بينما هي تنتظرني على باب الدار بشغف لا حدود له ، استبقت لقائي ببضع خطوات ، قبلتني وسألتني عن المعرض وحضور الناس وردود أفعالهم . سيبقى مشهد انتظارها لي هناك في حيّنا القديم في ذاكرتي الى الأبد.
في بداية التسعينات قررت السفر من العراق . مرت سنوات طوال وأنا في الخارج ولا أعرف شيئاً عن أمي وبقية العائلة ، كنت أحلم بها كثيراً ، كانت تتردد في ذاكرتي خطواتها وهي تستقبلني على باب البيت ، الى أن حلمت ذات مرة بأن لي جناحين أطير بهما نحو بغداد لأرى أمي هناك . وقتها سألت نفسي ، لماذا لا أرسم هذا الحلم ، وهكذا بدأت برسم سلسلة لوحات لأشخاص مجنحين يشبهون الملائكة ، رسمتهم بطريقة فيها الكثير من الرمزية والواقعية السحرية أذا صح التعبير . وكانت لوحة ( شوق الى البيت ) هي أولى لوحات هذه السلسة ثم تبعتها لوحات مثل الملاك الحارس والأقدام الراقصة وملاك شارد الذهن والرغبة المجنحة وغيرها الكثير .
في صباي كنت أرسم كي تحبني أمي أكثر وعندما كبرت عرفت بأنها مع كل لوحة جديدة كانت تفخر بي أكثر . لقد لاحظت ذلك حين فتحت لي ذراعيها وأنا أزور بغداد بعد سنوات طوال من الغياب القسري ، فتحت ذراعيها من جديد واحتضنتني على باب دارنا القديم وكأنها تعيد تصوير لوحة ريمبرانت ( عودة الابن الضال ) في ذلك الكتاب البعيد.
كيف أحبت أمي لوحات ريمبرانت
[post-views]
نشر في: 8 مايو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...