"لا شيء يدوم!"- هذة "الحقيقة" التى يقرّ بها وبوجودها كثـر. لكن بعضاً منا لا يود ان يعترف بذلك، ولا يمكنه بسهولة تقبل نتائج تلك المقولة، التى يرى ذلك البعض فيها "مفسدة" لما تعود عليه وألفه. وفي الحقيقة، (الحقيقة النسبية، طبعاً، فليست من ثم
"لا شيء يدوم!"- هذة "الحقيقة" التى يقرّ بها وبوجودها كثـر. لكن بعضاً منا لا يود ان يعترف بذلك، ولا يمكنه بسهولة تقبل نتائج تلك المقولة، التى يرى ذلك البعض فيها "مفسدة" لما تعود عليه وألفه. وفي الحقيقة، (الحقيقة النسبية، طبعاً، فليست من ثمة حقيقة مطلقة!) من ان عملية التغيير، هي عملية مضنية، ومرهقة، وفي كثير من الاحيان مزعجة ومقلقة للبعض. فالتسليم، بان ما كنت، سابقاً، تعتقد به صحيحاً وتراه واقعياً، قد لا يكون كذلك، وفقا لمجرى المتغيرات العميقة التى تحيط بنا وتمس "صحة" قناعاتنا.
ولهذا فان المسار التغييري يمر، عاملا عمله، من دون ان يأبه بمن لا يريد ان يعترف بان التغيير هو سمة الحياة وخاصيتها التى لا يمكن تجاهلها او نقضها. يشعر البعض منا (اؤلئك هم الرواد المكتشفون)، من ان وسائل المعرفة الحالية و"الثابتة" قاصرة على ايجاد اجوبة معرفية مقنعة وشافية لتساؤلات قد تفرضها الحياة المعاشة، عند ذاك يُلجأ الى تغيير واستبدال وسائل المعرفة ومنظوماتها باخرى جديدة غير مألوفة، بمقدورها ان تحدث التقدم، والسير بنا الى امام. وكلما كانت تلك الانظمة او الوسائل متقبلة للتغيير، كلما كانت نتائجها ومخرجاتها ذات كفاءة عالية. اما تلك المتشبثة بتقاليدها، والمتمسكة بصحة "صوابيتها" المطلقة، فانها، عادة، ما تؤول الى زوال. عندما نتعاطي مع "مفهوم" العمارة، انطلاقا من فعالية التغيير وتأثيراته، علينا ان ندرك من ان الانزياحات الكبرى المتمثلة في اختلاف الاساليب والمقاربات المعمارية، لم تظهر بمثل ذلك التنوع الخلاق، ما لم تكن هناك قناعة وقبول في تغيير وسائل المعرفة واستبدال الانظمة الداعمة لها.
عندما ظهرت "عمارة ما بعد الحداثة"، فجأة، في السبعينات بالمشهد المعماري، ودشنت عملها في هدم و"تفكيك" ما كان سائداً ومتعارفاً عليه، كانت تلك الاجراءات، لدى البعض (لدى كثر؟)، اجراءات مؤلمة، وموجعة، وفي الكثير منها غير مفهومة وتبعث عن القلق. لكن سرعة تاثير المتغيرات "الخاطفة"، التى لم تمنح وقتاً ولا مجالاً للمترددين ان "يجروا نَفسَاً" عملت عملها بالتعاون (التواطؤ؟) مع المفاهيم المنظرّة والمؤسسة لتلك المتغيرات وشيوعها في الخطاب. وفي اختصار شديد، فان استبدال المعرفة ووسائلها وتغيير الذائقة الجمالية، باتت بفضل مفاهيم عمارة ما بعد الحداثة، احدى المؤثرات الكبرى في صياغة العمل المعماري ما بعد الحداثي. نحن اذاً، امام عهد جديد، و"زمن جديد" لا يمت بمبادئه الى تلك المبادئ المشكلة والصائغة لقيم وذائقة اعتدنا عليها وألفناها. ماذا كان تأثير كل ذلك على النشاط المعماري المحلي؟
لم يكن، بالواقع، ذلك التأثير لافتا، او قويا، او عميقاً على المنتج المعماري المحلي، لعدة اسباب، اولها، تواؤم مرحلة انتشار قيم عمارة ما بعد الحداثة مع فترة ملاحقة المؤسسات الاستشارية المحلية وإغلاقها، التى دأب النظام الديكتاتوري على ممارستها وقتذاك، وطرد وهجرة معظم المعماريين الرواد وغيرهم الى الخارج، بالإضافة الى توافق ذلك مع حقبة الحروب العبثية التى افتعلها النظام، والتى لم تسمح بانتشار الافكار المعمارية الطليعية، او ان تنمو قيمها في التربة المحلية بصورة طبيعية وصحية، فضلا على تسّيد النزعات "الشعبوية" المرافقة لبنية النظام الاستبدادي، ما افضى الى "تمجيد" الابتذال المعماري وانتشاره كمصد يقف بالضد من التيارات الحداثية والمقاربات الجديدة الوافدة. كل ذلك ساهم في بقاء الممارسة المعمارية المحلية بمنأى عن ما يدور في الورشة المعمارية العالمية، وخصوصا الطليعية منها. لكن ذلك لم يمنع بعض المعماريين العراقيين، من ان يتعاطوا مع منجز عمارة ما بعد الحداثة، بصيغ خاصة، وبقراءة ذاتية افضت الى ظهور تجارب تصميمية معتبرة، لفتت انظار المهتمين لجهة فرادتها الاسلوبية ومقاربتها غير المألوفة. وما قام به المعمار معاذ الالوسي (1938)، احد المعماريين المميزين في المشهد المعماري المحلي والاقليمي، والتائقة عمارته الذكية لنوع من التثاقف العالي مع الاخر، ومقدرته على اجراء فعالية "التناص" مع ما يدور في الورشة المعمارية العالمية، من تجارب تصميمية جعلت منه المعمار المؤهل، الذي يمكن ان يكون قادراً على تبني تلك الطروحات وان تكون بعض تصاميمة عاكسة لذلك "الجديد" الذي شغل بال ومقاربات معماريين طليعيين كثر. ولعل ظهور مبنى "ايا" في البتاويين ببغداد (1989-1990): كان بمثابة تأكيد على تلك الاضافات التصميمية التى ارتبطت باسم ذلك المعمار المجتهد، والنزوع لتفسير ظاهرة عمارة ما بعد الحداثة في ضوء ما تمليه اشتراطات خصوصية المكان وثقافة المعمار المميزة. لكن معاذاً، وإن عُدّ مبناه ذاك، المتعدد الطوابق، كاول مبنى ما بعد حداثي على الارض البغدادية (كما وصفته، يوما، في احدى حلقات هذه الزاوية من عمارة..عمارة)، فانه (اي معاذ)، سبق وان تصدى لتلك "الثيمة" في مبنى آخر، وان كان بمقياس ومقاس متواضعين، لكنه ما فتئ يظل، بالنسبة اليّ، احد التمارين الفريدة والرائدة في التعاطي مع مقاربة عمارة ما بعد الحداثة. انا اعني، بالطبع <دارة فاروق الآلوسي> بالمنصور (1986). تلك الدارة الاستثنائية في عمارتها والحافلة بقيم عمارة الحداثة، والصادمة بفورمها غير العادي لدى كثر من متلقيها ومشاهديها!
ينزع، اذاً، المعمار ان تكون عمارة دارته المنتقاة، ضمن مفاهيم عمارة ما بعد الحداثة. انه هنا اقرب الى التعامل مع "التفكيكية" من اي اتجاه آخر فيها. فهو هنا، يذكرنا باطروحة "بيتر ايزنمان" (1932) P. Eisenman: احد اشهر المعماريين التفكيكيين، وواحد من المناصرين الاشداء لـ "جاك دريدا" منظر التفكيكية المعروف. لكنناعلينا ان نكون حذرين في مهام تبعية كامل عمارة المبنى الى الاتجاه التفكيكي؛ ذلك لان معاذاً "ينتقي" ادواته التصميمية، انطلاقا من ثقافته الغزيرة، وعمق معرفته (عشقه؟) لخصوصية المكان. وهذا التذكير "الايزنماني" تجلى في كيفية "رسم" وتصميم اعمدة مدخل الدارة الآجرية، ذات التيجان المتدرجة الثقيلة، والتى تستدعي اشكالها تيجان "الدلكات" الخشبية الشائعة في العمارة التقليدية. لكنها هنا، تلك الاعمدة في دارة الآلوسي، اقرب الى "الغَرتسك" Grotesque، منها الى اشكال مستنسخة بعناية. (يترجم صاحب "المورد" كلمة "الغرتسك" كالاتي: مغاير لكل ما هو طبيعي او متوقع او نموذجي؛ متنافر على نحو متسم بالاحالة او البشاعة، شيء غريب على نحو بشع او مضحك). وهذا التعامل <الفظ> "الغرتسكي" هنا، هو الذي يجعلنا ان نتذكر "ايزنمان"، القائل مرة، من ان الفضاء المعماري المعاصر، يتطلب اليوم شكلا اكثر تعقيداً من مفهوم "الجمال" الصافي التقليدي. فالى جانب الحسن يتعين ان تحضر "البشاعة" والى جانب العقلانية ثمة "لاعقلانية" يتعين ان ترادفها. بمعنى آخر، ودائماً، وفقاً لبيتر ايزنمان، "يسعى الجميل الى كبت حالات "الجليل" Sublime المتعددة وقمعها، بما فيها التشوه، واللاطبيعي، والبشاعة، والشك". من هنا ، يمكن ايجاد تفسير لانتقاء المعمار اشكال "دلكاته" المثيرة و"المتهكمة"، التى نقل هيئتها "الغرتسكية" الى الداخل ايضاً، متلاعباً هناك، مع اشكال تيجان تلك الاعمدة بهيئاتها الكاملة مرة، واخرى "مشطورة".
بالطبع، لا يسع المجال هنا، للحديث باسهاب عن عمارة الدارة، رغم اهمية عمارتها ومكانتها في المنجز المعماري المحلي، لمحدودية المجال لهذه الحلقة من "عمارة..عمارة". لكننا وددنا ان نشير، بان هذا المبنى، مع تواضع مقاساته، أبان بدء التعاطي مع مقاربة عمارة ما بعد الحداثة بالمنتج المعماري المحلي، وامست عمارته تمريناً لافتا في تلك المقاربة، التى لم يكتب لها، مع الاسف، الانتشار والتوسع والمحاكاة. عندما ظهر المبنى في منتصف الثمانينات، سارعت للترحيب بعمارته من خلال مقال نشر، وقتذاك، في ثقافة <الجمهورية> على "خمسة اعمدة" من الجريدة. وعندما زرت صديقي (وأستاذي) المعمار الرائد جعفر علاوي (1915-2005)، الذي كان يسكن لصق دارة الالوسي اياها، بادرني مبتسماً، ومعلقا عن مقالتي: "او ليس، من مبالغة، يا خالد: خمسة اعمدة <لخاطر> دلكين؟!!"، كناية عن شكل اعمدة المدخل المثيرة. لكنني ما زلت اعتقد، بان ليس المهم الموضوع بحد ذاته. المهم، هنا، هو "الحدث": الحدث المعماري الجريء، والجسور، وغير المطروق، الذي اغني بعمارته تنويعات المنتج المعماري المحلي، مؤشراً بانموذجه التصميمي "زمن" الانزياحات المعمارية.
والمعمار معاذ الآلوسي ولد في 1938 ببغداد، وانهي تعليمه المعماري من جامعة الشرق الاوسط بانقرة/ تركيا، في سنة 1961. عمل في مؤسسة الاسكان العراقية ثم مديرية المباني، قبل ان يلتحق في مكتب الاستشاري العراقي، الذي سوف يتركه عام 1974، مؤسسا لنفسه ومع آخرين مكتب "الدراسات الفنية" في بيروت /لبنان ، وبعد حله ينشئ مكتب " الالوسي ومشاركوه" في قبرص. صمم "البنك العربي"(1978) في مسقط، و"سفارة الامارات العربية المتحدة(1979) في عُمان، والسفارة القطرية (1976) في عمان، والسفارة الكويتية في البحرين، ومركز الدراسات المصرفية" (1980) الكويت العاصمة، اشرف على تطوير منطقة الكرخ (1981-82)، وتطوير شارع حيفا ببغداد، وصمم الجزء السادس منه (1980-84)، فضلا على اشتراكه في "مشروع مسجد الدولة الكبير"( 1982) بغداد/ العراق، ومركزصلالة الثقافي (1982) في عمان، صمم دارة سكنية له في الكريعات (1985)، و"مستشفى البسمة الاهلي" (1989) بالوزيرية ببغداد/ العراق و" خدمات مرسيدس بنز"(1999) في يرفان / ارمينيا. نشر دراسات عديدة والف كتابين (يوميات بصرية لمعمار عربي)،1983، بيروت /لبنان، و"نوستوس" عمان 2012. يمارس الى جانب النشاط المعماري، الفن التشكيلي والفوتوغراف. مقيم في قبرص.