التقط الشاعر شكر حاجم الصالحي اهتمامات موفق محمد بما هو يومي وتوظيف الشفاهي في نصوصه وأنجز كتاباً جديداً له وهو " شاكيرا تراقص موفق محمد " . والعنونة متشكلة من نص للشاعر موفق محمد واجه تردي الحياة بتسامي شاكيرا في رقصها . واعتقد بأن انتباهة الشاعر شك
التقط الشاعر شكر حاجم الصالحي اهتمامات موفق محمد بما هو يومي وتوظيف الشفاهي في نصوصه وأنجز كتاباً جديداً له وهو " شاكيرا تراقص موفق محمد " . والعنونة متشكلة من نص للشاعر موفق محمد واجه تردي الحياة بتسامي شاكيرا في رقصها . واعتقد بأن انتباهة الشاعر شكر الصالحي حققت انجازاً مهماً ، خاصاً بتجربة موفق ، واعتمد كثيراً على نصوصه العامية ، لأن الشاعر برع كثيراً في تحققاته العامية على الرغم من قلتها ، لأنه دائماً ما يعمل على تجوهر نصوصه الفصيحة بالعامي والشفاهي ، بحيث ذهب طويلاً وعميقاً لترسيخ العلاقة الثنائية بين العامي والفصيح ويمنحهما حضوراً عالياً . وعلى الرغم من أن موفق محمد لم يكن أول شاعر في العراق في هذا التوظيف ، فقد سبقه السياب وسعدي يوسف في قصيدته سالم المرزوق ، لكن موفق محمد جعل العامي مجالاً فاعلاً مهماً ، زاول تأثيره على عديد من التجارب الشعرية الشابة في العراق .
كنت أول من نبه لعناية موفق بالعامي ( للاطلاع : ناجح المعموري / قبعة موفق محمد / دار تموز / دمشق / 2012 ) وتميزت بامتدادها الوظيفي والفني داخل النصوص ، وتمركزت ماثلة في المرويات والشفاهيات . وكان النص لديه محكوماً بعديد من الوظائف الاتصالية اليومية والمعروفة بطابعها البسيط والتقليدي والذي يضفي على النص شيئاً من الألفة والاعتيادية . والشفاهي لا يكتفي بعناصره ، بل يستحضر مساعدات له هي من مكوناته ، مثل الحكاية والأمثال ، النكتة ، الشتائم ، كل هذا تعامل معه الشاعر بوصفه أنماطاً سردية ، امتلكت قدرة على تحريك النص وبناء فاعليته وتغذيتها بالمحفزات :
يا أيها المتقرفص في المرآة
انفض عن كتفيك غبار الخوف
قُلّ لي ما اسمك ؟
واستدر لي
فأنا مثلك أتشظى رعباً
وأعبر في المرايا كي أراك ولا أراك .
يلاحظ القارئ لهذا النص أن الخطاب موجه الى الآخر ـ كما قال الشاعر شكر الصالحي ـ الذي هو الذات المنتجة من خلال ـ فأنا مثلك ـ ومن هنا تتضح حالة الاندماج لا بل التطابق بين الاثنين ، وهذا ما سيكشفه النص لاحقاً ، لكن المرآة هي الكاشفة في البدء عن حالة الرعب الذي يعيشه الاثنان ، والمرآة بدلالتها الواقعية العاكسة لما يقع عليها من أشكال ولذا فالصورة التي تجسدها لارتوش فيها ، بل هي صافية / ومعتمة / ومضببة .
أنا أعتقد بأن توظيف العامية بحاجة الى دراسة طويلة ، تلاحق تمظهراتها في تجربة الشعر العربي وبوقت مبكر جداً ، وبدأت تتسع وتثير اهتمام الأدباء والشعراء ، لكن التوظيف متباين بين شاعر وآخر ، والعودة للشاعر موفق محمد واستثماره للعامية ، سنجد له وظائف متنوعة ، منها النكتة ، كما قلنا والسخرية والشتيمة والهجاء ، وشعر موفق الفصيح يتجوهر بالعامية ويصير قوياً ، صادماً ، محرضاً ، ومقوضاً أيضاً ، إنها وسيلته لاستهداف الخراب ومن اقترحه وأسس له ، حتى ساد الخراب الكامل . وأجد من الضروري الإشارة لتجارب شعرية عربية بارزة ومعروفة وظفت الشعر العامي ، أو وسيلة الاتصال اليومي المألوف ومن أهم هذه التجارب ، الشاعر عز الدين المناصرة ، سعد الدين شاهين موسى حوامدة ، ريسان الخزعلي . وفي بحث الأستاذ عباس اليوسفي الخاص بالشاعر المعروف توفيق صائغ ذكر بأن جبران خليل جبران والزهاوي ومعروف الرصافي ومصطفى وهبي التل ، وقال د. عباس اليوسفي ان لا فرق لديه بين مفردة عامية ذات أصول غير فصيحة وأخرى ذات أصول فصيحة . لهذا جاءت لديه طاقة من الألفاظ العامية ... وعلى الرغم من أن توفيق صائغ لم يكن الرائد في هذا المجال ، إذ سبقه الى ذلك كثير من الشعراء العرب في أوائل القرن العشرين ( د. عباس اليوسفي / شعر توفيق صائغ ، دراسة فنية / 2009 / ص122 ) .
لميخائيل نعيمة رأي حول ضرورة الانتباه لأهمية المفردة العامية ، أما الاتكاء عليها فمنوط بذوق كل كاتب أو شاعر على حدة ، فالأذواق لا تخضع لقاعدة أو قياس / سبق ذكره ص121 .
قال الشاعر شكر حاجم الصالحي في كتابه [ شاكيرا تراقص موفق محمد ] بأن ـ الشاعر ـ أعاد ، في العديد من قصائده الشعبية الهيبة للشعر العامّي وفي قصيدته " مخدتنه عصافير " بالذات وحضوره في أوساط المهتمين والمعنيين بعد أن طفح الكيل بتناسل عجائبي للأصوات النشاز والنماذج الساذجة التي لا صلة لها بأصالة شعرنا العامّي وتراثه المجيد سوى هيمنتها على الذائقة المتدنية وانتزاع تصفيق الأيدي التي لا تجيد غير ذلك بمناسبة أو بدونها لكلمة صغيرة أو صورة بائسة دون إدراك جوهر الكلام المسموع وقيمته ، إن اللافت للانتباه في [ مخدتنه عصافير ] لغتها الدالة وصورها المبتكرة وقدرتها على إيقاظ مشاعر التفاعل الحميمي مع ما فيها من انثيالات شاعر متمكن من أدواته / ص20 .
قدم شكر التماعات نقدية خاصة بالشاعر موفق محمد ، لأنه مجاور له كثيراً خلال العقود الثلاثة الأخيرة واقترب منه أكثر ويعرف لحظات ولادة العديد من قصائده ، لذا سجل ملاحظات ، شكلت بعضاً مهماً في تجربة موفق محمد ، منها على سبيل المثال وليس الحصر ، التعلق بالمكان ، فهو أكثر الشعراء العراقيين جنوناً بمكانه ـ الحلة ـ ومحلة الطاق ونهر الحلة ، وجسرها ، تعامل مع الأماكن بوصفها تجوهرات دلالية في النصوص وصاغ منها روحاً للجماليات الرمزية في اللحظة التي اكتشف فيها بأن جسر الحلة ، لم يكن وسيطاً للانتقال من مكان لآخر وإنما ينطوي على دلالة الحوار بين نمطين ثقافيين وحضاريين الصوب الجديد / الحكومي والصوب القديم / الزراعي . وقد اتخذ النهر في نصوصه دوره الذكوري ، بعد انحسار دلالته المرتبطة بالموت واتصل بالمرأة وخصبها مثلما هو حاصل مع تجربة التخصيب الرمزي لمريم العذراء .
الحلة مدينة الشاعر والطاق مركزها وسرة العالم كله . الطاق ذاكرة المبدع وطوفان أحلامه وفتوته ، محلة امتدت الى الحلة / والعراق وعرفت بتأريخها أسماء ورموز ثقافية خالدة حتى الأبد ومنهم طه باقر / محمد مهدي البصير / عبد الجبار عباس / وعلي جواد الطاهر ونجح الشاعر في وصل كل هذه الأسماء مع تجوهر مقترن بالعالم طه باقر ، حيث فك رموز الخط المسماري لأنه متخصص بالآثار والتاريخ القديم ، وهي المحلة التي رأى منها البصير النور وكتب فيها شعراً . ولابد أن يكون للشاعر موفق محمد أثر مع الموروثات التي أشار لها ، حيث أضاء بعضاً من دربه الحياتي والثقافي ، لأنه ورث أعظم ما انتجته هذه الشبكة الرمزية ، مثلما كان ممسكاً للخيط الناظم لهم جميعاً في محلة الطاق التي جعل منها الشاعر مكاناً متجوهراً ، ليس في الحلة والعراق فحسب وإنما في العالم ، حيث تحولت هذه المفردة / المكان / الى سرة العالم واتسعت للجمال والشعرية ، وحازت قدرة على التجدد والتعالي من خلال شاعر مبدع ، عرف كيفية العودة لأرحامه العديدة التي عاش فيها وعلمته الحب وتعاطي الجمال .
اختتم الشاعر شكر حاجم كتابه قائلاً : وفق الشاعر موفق محمد في استثمار المأثورات الشعبية باستخدامه كل إمكانات اللغة العامية واستنطاقها بأية صورة أجمل من قوله [ وإنه من الهز أذوب وطاحت اجتافي ] وأي شاعر غيره لا يقدر أن يأتي قارئه بمثل هذا الجمال الباذخ الذي يجعلنا نطير مع شاكيرا التي يدعو الشاعر لتطرز جسدها بحبات السنابل وترضع حليب البلابل .