TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تعارض غير متكافئ

تعارض غير متكافئ

نشر في: 17 مايو, 2015: 09:01 م

حين جئتُ لندن في مطلع 1979، أقمت في شقة صغيرة، لا تخلو من رطوبة. لا أُحسن الانكليزية، والتلفزيون الذي أملكه مازال بالأسود والأبيض. ومع هذين العاملين المحبطين كنت لا أكاد أفارق شاشة التلفزيون. برنامج العروض السينمائية يقدم مخرجاً كبيراً كل أسبوع، إنطونيوني، فيسكونتي، فِلليني، بازوليني، بيرغمان، كازان، جون هوستون، كوروساوا، رينوار.. وللندوات الثقافية حصةٌ أسبوعية كنت أتطلع فيها إلى وجوه الأعلام الثقافية والشعرية آنذاك، التي كنت أعرفها عبر الصورةِ والكِتاب وحدهما. للعرض المسرحي حصة، وللأوبرا حصةٌ، ولك أن تتخيل ما يجاري ذلك في حقل الفن والموسيقى عامة.
اليوم تلاشى معظم ذلك، أو يكاد. استعدت ذلك الحضور العظيم لثقافة الاعلام، وأنا أجلس أمام شاشة التلفزيون الذي هجرتُه منذ سنوات، مضطراً بفعل متاعب صحية طارئة لا أصلح معها للقراءة والكتابة. كانت لديّ محطتا تلفزيون فقط، وبالأسود والأبيض. واليوم لدينا محطات ملوّنة لا تُحصى. عبرها لا تستطيع أن تقع على مكان استراحة يُغذي العقل والقلب إلا نادراً. أكثر البرامج شيوعاً وشعبية في المحطات جميعاً، ومحطات البي بي سي ضمناً، تنصرف بمهرجانية إلى شؤون المطبخ، وإعداد الأطباق الشهية، أو شؤون إثارة الشهوة التي لا تُطفأ باتجاه الجنس، الشهرة، والنجومية الرخيصة، في الغناء خاصة، أو باتجاه سوق العقار والتفنن في إثارة شهوة الربح المالي، أو الفوز المالي عبر مباريات لا تُحصى في تنوعها، أو باتجاه مزيد من الكوميديا التهريجية، وإثارة سحر المغامرة الخطرة في قيادة السيارات، وكل ما يعكر المزاج...الخ.
هناك من يرى في هذا المنحدر مدى التأثير الأميركي على انكلترا وأوروبا عموماً. وهو عامل مقنع ولكن بحدود. هذا إذا ما قبلنا فكرة أن أميركا اليوم هي العالم الحديث في قارة كبرى. وأن العالم ربما، لم يعد يملك الخيار إلا أن يلتحق ويكون حديثاً. وإن هذا المصير غرفةٌ بنافذتين: مُشرعةٌ على الشمس، ومحجوبةٌ عنها. بحقلين: مُترعٌ بالزروع تحت قوس قزح ، وآخر أجدب غائم الأفق.
الحضارة الحديثة غريبة الطبيعة، فهي تتسارع في تطورها، في نصف من الأرض، بزمن لا عهد للانسان به، في حين يتخلف النصف الثاني بفعل كوابح لا تقل غرابة في طبيعتها عن النصف الأول. هذا التعارض مخيف بالتأكيد. ولكن داخل كل نصف ثمة تعارض أكثر خطورة. فعالم الحداثة الغربي بقدر ما يُسرع باتجاه ضمان حياة الانسان، في الصحة، وكرامة العيش، واتساع أفق المعرفة، بقدر ما يُسرع بدم بارد باتجاه تحطيم روحه وجسده، أو حتى تهديده بالفناء. وفي العالم الثالث يبرز التعارض في الفعل السياسي الذي تعتمده الحياة. ولكنه تعارض غير متكافئ بين الفعل السياسي الفاسد الذي يغطي أكثر من تسعين بالمئة من الواقع، وبين الفعل السياسي المتعافي الذي يبدو استثناءً نادراً. وهذا الفعل الأخير هو الذي يعزز أمل الانسان في الاحتجاج بوجه اليأس الذي يغذيه الفعل الأول.
أتابع في الاخبار، وأنا أكتب، هذا الوداع المهيب في سنغافورا لمؤسسها الراحل "لي كيوان يو"، الذي نقل بلده بحكمة من موقع مجهول في العالم الثالث إلى بلد معلوم في العالم المتقدم، كما ورد في الأخبار. وداع جنوب أفريقيا لمؤسسها مانديللا ليس ببعيد. وقبله مع الهند وغاندي. هؤلاء القلة النادرة تعزز لدى الكائن، كما قلت، أمله باحتجاجه ونضاله من أجل قائد طيب الرائحة. ولكن الهيمنة الضاربة للفعل السياسي الفاسد في العالم الثالث، وفي عالمنا العربي بشكل خاص، تُغذي كريات اليأس في دم الكائن، وتُعطّل قدراته، وتحرف الاستجابة لديه، إذا ما توفرت، إلى الخطوات الضالة.
البرامج الرديئة في التلفزيون، والتي تنتقل إلى عالمنا الثالث، بفعل تقليد أعمى، انتقال النار في الهشيم، إنما تتحدث بلسان طرف واحد من طرفي التعارض، في العالمين المتقدم والمتخلف معاً. اللسان الذي يتحدث عن سحر الطموح الشيطاني إلى التسلّط، الثروة، الشهرة، الأنا المتضخمة التي يتحول الآخر إزاءها إلى جحيم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram