TOP

جريدة المدى > عام > فصولٌ من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

فصولٌ من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

نشر في: 20 مايو, 2015: 12:01 ص

القسم 26
لم يكن شيء قد تغيّر في كوخنا الريفيّ في كورنوال فيما عدا أن الرطوبة كانت أتلفتْ أغلفة مجلّداتي من الموسوعة البريطانيّة ، وعملْتُ على إعادة إصلاح الأغلفة بنفسي مستعيناً بما كنت اذكره من تغليف الكتب الّذي كنّا تعلّمناه في المدرسة. دُعيتُ عام

القسم 26

لم يكن شيء قد تغيّر في كوخنا الريفيّ في كورنوال فيما عدا أن الرطوبة كانت أتلفتْ أغلفة مجلّداتي من الموسوعة البريطانيّة ، وعملْتُ على إعادة إصلاح الأغلفة بنفسي مستعيناً بما كنت اذكره من تغليف الكتب الّذي كنّا تعلّمناه في المدرسة.
دُعيتُ عام 1958من قبل المجلس الثقافيّ البريطانيّ لإلقاء سلسلةٍ من المحاضرات في الجامعات الألمانيّة ، وقرّرنا منذ البدء أنا وجوي أن تعقب المحاضرات رحلةٌ نهريّة عبر الراين وقرّرنا أيضاً اصطحاب والدي ووالدتي الّلذين لم يسبق لهما السفر خارج بريطانيا من قبلُ ، كما قرّرنا السفر بسيّارتنا لاقتناص المزيد من المتعة في مشاهدة أوروبا وكذلك توفيراً للنفقات عبر التخييم عوضاً عن استئجار الغرف في الفنادق . والحقّ أنّني كنت متردّداً للغاية في الذهاب لانّني كنت اعتدْتُ الالتصاق بكوخنا الريفيّ ولم يكن ذلك غريباً عليّ لانّ هذا من السمات المميّزة لأفراد برج السرطان !! ، ولكنّ ما حصل فعلاً هو أنّنا ابتعْنا العدّة اللازمة للتخييم والنوم في العراء من لندن ومضيْنا في رحلتنا إلى الربوع الألمانيّة ولازلتُ اذكرُ كيف عبرْنا نهر الراين عند مدينة آخن Achen في طريقنا إلى بون لمقابلة صديقٍ لنا كنّا نعرفه في لندن ويدعى ( ألفونس هيلغرز Alphons Hilgers ) .في صبيحة اليوم التالي لوصولنا بون غادرنا إلى دوسلدورف ونصبْنا خيمتنا على ضفاف دوسسل” Dussel “ وبينما كنّا نتناولُ عشاءنا وإذا بعاصفةٍ هوجاء تهبّ فانطلقنا على الفور لمعاينة خيمتنا فإذا بها قد استوَت مع الأرض ولكن لحسن الحظ لم يتحطّم شيء ممّا كان بداخلها . واصلنا رحلتنا عبر الراين ونحن مسكونون بموسيقى فاغنر وذكرياته ، وعندما وصلنا هايدلبرغ قضيْنا ليلةً في أحد الفنادق القريبة من الجسر القديم حيث شربنا الكثير من البيرة وتناولْنا عشاءً ذكّرَنا بأجواء القرن الثامن عشر ، وفي اليوم التالي كان موعدي مع محاضرتي الأولى . ولانّني لم أعتدْ استخدام كرّاسة ملاحظات مساعدة لي كعادتي في كلّ محاضراتي فقد كانت بدايتي تبدو بطيئة ومتعثّرة بعض الشيء ، ولكن بعد بضع دقائق انطلقْتُ كالعادة في محاضرتي كشلّال منهمر ، وكان أستاذ الأدب هاينريش فالز Heinrich Walz
هو من قدّمني في بدء محاضرتي وكان أحد أحبّ الالمان الفاتنين والمتحضّرين قرباً إلى قلبي واعترف الرجل لي بعد انتهائي من محاضرتي بأنّ قلبه غاص في صدره خلال الخمس دقائق الأولى من المحاضرة ، وكان يتوقّعُ أن تنقلب الأمور كارثة محقّقة ، ولكنّ الحال مضى كما يرغب وانشرح صدره بعد أن رآني وأنا أستعيدُ موهبتي في الكلام الّتي كنتُ تمرّنتُ عليها أيّام الهايدبارك الرائعة . ذهلتُ أثناء محاضرتي لرؤية الكثير من الفتيات الألمانيّات المتألّقات والمتأنّقات وهنّ يصغين بانتباهٍ لما كنتُ أقوله وحسدْتُ فالز كثيراً لانّه اعتاد أن يحاضر بين جمهرةٍ من الفاتنات وتزوّج فعلاً من إحداهنً وكانت تصغره بنحو ثلاثين عاماً !! . مضيْتُ في إلقاء محاضراتي في نيوشتاد Neustadt بيْن جمهرةٍ من المعلّمين وأطريٍتُ كثيراً عمل صديقي بيل المنشور حديثاً في ألمانيا ثمّ حاضرْتُ لاحقاً في هايدلبرغ بين جمهورٍ من الفاتنات اللواتي كنّ يتطلّعن إليّ بعيون شبقة ، وهنا لابدّ من الاعتراف بأنّي وجدْتُ الأمر مربكاً لي وها أنا أقول بعد اكثر من أربعين سنة انّني لو لم أكن برفقة جوي لكنتُ أضعْتُ الكثير من الوقت الثمين في الإنصياع لنوازعي الجنسيّة المتأجّجة والّتي لا تُبقي وراءها شيئاً ذا فائدة حتّى لو كان محض خبرة صغيرة . قضيْنا أحد الأيّام في تناول الغداء مع البروفسور فالز في مطعمٍ يقبعُ على قمّة أحد الجبال المُطلّة على هايدلبرغ و انتابتْني حينها نشوةٌ عارمة لمعرفة كم أنّ الحياة تبدو ممتعة إلى حدّ عصيّ على أيّ وصف ، وكانت هذه فعلاً هي الحياة الّتي رغبتُها قبل نشر اللامنتمي وليست تلك الحياة - الّتي تعجّ بالاحتفاليّات اللندنيّة المضجرة وأعمدة النميمة الّتي تملأ الصحف البريطانيّة – الّتي ابتليتُ بها بعد نشر كتابي الأوّل . حاضرْتُ أحد الأيّام في مدينة فرايبورغ Freiburg وسط حضور كبير للغاية وكنت أتامّلُ مقابلة هايدغر في جامعتها غير أنّي أخبِرْتُ أنّه كان تقاعد و انعزل في معتكفه الجبليّ .
بدأت رحلة عودتنا بالسيّارة بالإنطلاق أوّلاً نحو باريس لزيارة دار نشر غاليمار الباريسيّة الّتي سبق لها أن نشرت النسخة الفرنسيّة من اللامنتمي ووافقتْ على نشر ( الدين و المتمرّد ) كذلك ، وأذكرُ في يوم 1 آب عام 1958عندما ذهبْتُ إلى دار نشر غاليمار لمقابلة ( ألبير كامو ) الّذي كان يعمل مثل إليوت في حقل النشر لِتعزيز مدخوله الماليّ ، وكان كامو آنذاك الكاتب العالميّ الأكثر شهرةً و نجاحاً ، فقد حصل على جائزة نوبل في السنة السابقة وهو بعمر الرابعة و الأربعين ، وسبق له العمل في حركة المقاومة الفرنسيّة وكان يحرّر صحيفتها المسمّاة ( القتال Combat ) لذا عومِل بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية بكونه بطلاً فرنسيّاً قوميّاً وحقّقت روايته ( الطاعون ) الّتي نُشرت عام 1947 مبيعاتٍ تجاوزت الربع مليون نسخة في فرنسا وحدها لأنّ الفرنسيّين رأوا في الطاعون كنايةً عن الإحتلال النازيّ لبلادهم .
ومن الطريف هنا أن أذكر انّ أحد نقّاد الأفلام وصف كامو بانّه مثالٌ على "اللاعدالة الّتي تمشي على قدميْن" لانّه إمتلك القدرة على حيازة كلّ ما يتمنّاه المرء : إغواء النساء ، امتلاك السعادة ، الشهرة ،،، بالإضافة إلى تمثّل كلّ الفضائل السامية لذا وجد الجميع أنفسهم عاجزين إزاء هذه اللاعدالة الصارخة !! . كنتُ أتوقّعُ - قبل أن أرى كامو – أنّني سأرى شخصاً يذكّرُني بإليوت ، و لكن عندما رايته فعلاً اندهشتُ كثيراً لرؤية رجلٍ يبدو شابّاً للغاية على عكس صورته المنشورة الّتي يبدو فيها جدّياً و صارماً كمن أنهكهُ التفكير في موضوعة العدالة المطلقة و مثيلاتها من المسائل الفلسفيّة الشائكة ، وقدّرتُ عمره لدى رؤيته بما لايتجاوز الثلاثين و كانت عيناه البنّيتان تتراقصان بحيويّة و حبورٍ يشيان بمزاجه الرائق و لكنّه للأسف لم يكن يتكلّم الإنكليزيّة ولكن فرنسيّته كانت واضحة وسهلة الفهم ، و أمضيْنا معظم الوقت لما بعد الظهر في الحديث عن جملة أمورٍ - من بينها كتبي طبعاً – وأطرى كثيراً على الأفكار الواردة في اللامنتمي وأخبرني بشكلٍ غير متوقّع أنّه ينوي كتابة مقدّمة لكتابي الثاني ( الدين و المتمرّد ) . ولم يكن كامو ليخفي رفضه لأيّ شكلٍ من أشكال التديّن المنظّم وكان السبب وراء رفضه قد صار واضحاً لي بعد أن أخبرني بانغماره في كتابة رواية بعنوان ( الرجل الاوّلThe First Man ) يحكي فيها عن رجلٍ قرّر التخلّي عن التعليم والأخلاقيّات والدين وكيف ينتهي به الأمر في نهاية المَطاف إلى إعادة تشكيل نُظمٍ مثل هذه الّتي رفضها أوّل الأمر !! وبدت لي الرواية كإضافةٍ مثيرة إلى الثيمة المتداولة عن سياسات التمرّد Politics of Rebel : يشعرُ أيّ كائن ثوريّ متمرّد أنّ المجتمع يرمي إلى تقييده في سترة ضيّقةٍ شديدة الإحكام ، ويملأ رأسه بحقائق عديمة المعنى ( التعليم ) ويجبره على إعارة الإنتباه لرغبات الآخرين ( الأخلاقيّات ) ومن ثمّ التفكّر بِما هو فاعِلٌ بحياته القادمة ( الدين ) وهنا يبدأ الثوريّ برفض كلّ هذه المُقيّدات و يمضي في العيش طبقاً لما يُمليه عليه الإحساسُ الطبيعيّ بالتناغم والسعي نحو الكمال ، وعلى أساس هذه الفكرة طرح كامو رؤيته المدهشة في أنّ الأخلاقيّات ليست اختراعاً برجوازيّاً بل هي حالةٌ لصيقةٌ بالعلاقات الإنسانيّة .
أمضيْتُ ساعتيْن ذلك اليوم في المناقشة مع كامو ، وبعد انتهاء ملاحظاتي لم يعُدْ لديّ ما أقوله وكان إحساسي العام بعد نهاية اللقاء هو إحباطٌ شاملٌ مشوبٌ بانعدام الآفاق الذهنيّة ويشبه شعور من ارتطم رأسه بجدارٍ صلب وهو يمضي سريعاً في نفقٍ مسدود !! ، ومع أنّني تبادلْتُ لاحقاً بعض الرسائل مع كامو وأهداني هو نسختيْن من أعماله الّتي نُشرتْ بالفرنسيّة غير أنّني لم ألتقِ به مرّة ثانية ، و كم أسفْتُ عندما أخبرَني بيل هوبكينز مساء أحد أيام السنة اللاحقة للقائي معه أنّ كامو مات في حادث سيّارة مأساويّ وهو في طريق عودته إلى باريس .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram