كنت حائرا اليوم، بين أمرين، بين أن أكتب عن ضياعنا وخسارتنا الكبيرة في الرمادي أمام داعش وبين ان اتناول أهمية أفعال حكوماتنا في تكريمها للمبدعين الكبار، بمناسبة تكريم الكاتب الكبير محمد خضير من قبل أحد أعضاء الحكومة المحلية. ولأن قضية الرمادي ستكون محط عناية كتاب آخرين غيري فقد آثرت أن يكون تكريم الثقافة من خلال محمد خضير موضوعي هنا.
وبمناسبة تكريم أستاذنا الجليل محمد خضير من قبل نائب محافظ البصرة، والتي بدت انها مبادرة شخصية كريمة منه، لا تحمل طابعا رسميا، إذ لم يحضر المحافظ أو رئيس المجلس. لكننا، لا يسعنا إلا أن نقول بانها التفاتة سخية، وعناية لا بد من الاشادة بها، تلك التي عملت على تكريم احد كبار رموز الثقافة والكتابة السردية في العراق. وهي بادرة نتطلع إلى التأسيس عليها والحرص على تقويمها بما يليق بثقافتنا الكبيرة.
في الزيارة التي قام بها وزير الثقافة للبصرة تم اختيار محمد خضير كواحد من أعضاء لجنة مشروع البصرة عاصمة الثقافة العربية للعام 2018 وفي حديث جانبي مع الوزير والمدير العام لدائرة العلاقات الثقافية كان خضير يتحدث عن وجوب قيام الدولة العراقية ووزارة الثقافة باستحداث جائزة باسم (جائزة الدولة التشجيعية أو التقديرية) أو أن يصار الى تأسيس صندوق باسم التنمية الثقافية ثم اقترح أحد اعضاء اللجنة بأن تكون الجائزة ثمينة، فهي إما ان تكون بمبلغ محترم من المال او ان تصاغ على شكل قلادة من الذهب الخالص، وإلا لن تكون للجوائز أي قيمة اخرى. وفي زيارتي الأخيرة لبغداد دار حديث مع موظف كبير في وزارة الثقافة على أن الوزارة تكاد تكون قد خلصت الى إقرار مشروع الجائزة هذه. إذ من غير المعقول قيام دول أخرى، ليست بمرتبة العراق ثقافيا بمنح مثقفيها أسمى وأرفع الجوائز ويظل العراق يكرم علماءه وادباءه وفنانيه بدروع النحاس.
منذ أمد بعيد، والجهات المسؤولة تكرم الادباء والمثقفين العراقيين بدروع نحاسية، معمولة في السوق المحلية. وقد لا نحصي لها عددا. الشاعر كاظم الحجاج، وهو أكثرنا تبرما وسخرية من كثرة الدروع هذه في بيته، يقول في قصته مع الدروع النحاسية، التي كان حائرا في إيجاد الأمكنة لها داخل وخارج مكتبته. فهي تُهدى له في مناسبة أو بدونها. يقول الحجاج متهكما وساخرا، مشمئزا :(بانه بات يخشى على نفسه من أن يُسمّى بـ (أبو درع) لكثرة ما في بيته من دروع). وهنا، يمكننا أن نهمس بأكثر من همسة بأذن المسؤولين المحليين والعراقيين كافة. لنقول لهم لقد سئم المثقف العراقي وهو يتلقى الدروع النحاسة هذه. ولمن لا يعلم من القراء حقيقة الدروع التي يُكرّم بها الأدباء والفنانون والمثقفون العراقيون نقول: بأنها تصنع من مادة (الصِّفْر) النحاس، التي عادة ما يتم جمعها من باعة العتيق، الذين يطوفون المدن والقرى، وهم يصيحون عبر مكبرات الصوت المقززة، عباراتهم الشهيرة (من عنده عتيك للبيع، ماطورات، ثلاجات ،مكيفات...) فيأخذ (العتاكة) ملفات النحاس الكهربائية والبراغي والقطع النحاسية لتُصهر في بوتقة كبيرة، ومن ثم لتطرق على شكل صفائح، فتصنع منها دروعنا، التي تتفضل علينا بها الحكومات والجهات ذات المال. وهنالك جهات تترفع عن عمل الدروع من النحاس فتختار الزجاج، لا بل ولا تبخل علينا جهات (كريمة) أخرى بعملها من البلاستيك.
قد يحتج علينا أحد المسؤولين قائلا بأن تكريم المثقفين لا يُفهم بقيمته المادية إنما بأهميته المعنوية، نقول له: لا، يا صديقنا، التكريم يجب أن يكون بقيمته المادية، ذلك لأن الأديب أحقُّ الناس في العيش الكريم، في دولة تتناثر مليارات خزائنها هنا وهناك، وتذهب لجيوب القتلة واللصوص ومن لا يستحقون الحياة حتى. وعيب كل العيب أن يظل المثقف العراقي أسير كرم نحاسي، لا معنى به.
نطالع السير الشخصية للعلماء والكتاب والروائيين والشعراء والفنانين في العالم فنقرأ انهم كرموا بالجائزة الفلانية ومقدارها مائة ألف دولار، ومثلها بأكثر أو اقل، الدولة تكرّم وتمنح، والوزارة والجامعات تكرّم وتمنح، والمؤسسة الفلانية والفلانية تبتكر الوسائل المهذبة والمتحضرة في تكريمها لكبار علمائها ومثقفيها وهكذا تتم رعاية من يؤسسون لوعينا وثقافتنا.
قد يقول رئيس او وزير او برلماني، وماذا نجني من كتابة واعمال هؤلاء، الذين تدافع عنهم يا طالب أقول: كلكم سيرحل، وستنسون، وتذهب أسماؤكم أدراج الرياح، وسيهمل التاريخ ما صنعتم من خير وآثام. فهذا هنري الثامن ذهب ونسيهُ الناس وبقي شكسبير شاخصاً، وهذا شارل ديغول ذهب ورحل وظل كامو وسارتر، ومن قبل ذهب سيف الدولة، ابن حمدون وظل المتنبي شامخاً. ولا حضور لستالين وبريجنيف أمام تولستوي وبوشكين واخماتوفا. فمن تكونوا انتم امام السياب وسعدي يوسف ومحمد خضير.؟ يخطئ من يفصل بين ضياع مدننا وانساننا على يد داعش وبين ضياعنا وإغفالنا لثقافتنا ومثقفينا. نذكر بصيحة ستالين حين حاصر جنود هتلر مدينة ستالينغراد: أيها السوفيت، هبوا للدفاع عن وطن بوشكين وتولستوي ودستوفسيكي. نعم، العراق وطن المتنبي والجواهري والسياب ومحمد خضير.
بمناسبة تكريم الكاتب محمد خضير
[post-views]
نشر في: 19 مايو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...