يشير "فلتروسكي" إلى أن النص الدرامي، وإن كان الحوار مهيمناً عليه، تخترقه فجوات عديدة، وهي الفجوات التي يعمل المخرج، والممثل، والمصممون كل في اختصاصه، على ردمها. ولا يمكن تقديم النص الدرامي، والحالة هذه، دون ردم تلك الفجوات، فهي تشكل نقاط ضعف أو قوة أ
يشير "فلتروسكي" إلى أن النص الدرامي، وإن كان الحوار مهيمناً عليه، تخترقه فجوات عديدة، وهي الفجوات التي يعمل المخرج، والممثل، والمصممون كل في اختصاصه، على ردمها. ولا يمكن تقديم النص الدرامي، والحالة هذه، دون ردم تلك الفجوات، فهي تشكل نقاط ضعف أو قوة أي عمل درامي.
ومشكلة العمل الدرامي الأساسية، تلك التي تتفرع عنها مشاكل أخرى، تكمن في جماعيته. بمعنى: لا يمكن أن نستنتج أن العمل الدرامي سين هو عمل عملاق لمجرد أن كاتبه هو أحد أبرز الكتاب في العالم. يصحّ ذلك في حال قمنا بقراءة العمل بوصفه نصاً أدبياً، أما ترحيله إلى منطقة الفن، والصناعة الفنية، فإنه يتطلب شروطاً عديدة من أجل أن يصيبه النجاح، وتلك الشروط تتعلق، باختصار شديد، في الاختصاصات العديدة التي عليها أن تتعامل مع ذلك النص فتحوّله إلى عمل فني.
ان جماعية العمل الدرامي قد توصله إلى ذروة النجاح، كما أنها قد تسقطه في الرداءة، وبالتالي النسيان.
لا يمكن، والحالة هذه، القفز على أو تجاوز العناصر المؤسّسة والداخلة في صناعة العمل الفني، وهي عناصر عديدة ويؤدي كل عنصر منها واجباً معيّناً.
هل تستطيع الآن تخيّل مشهد درامي بلا أزياء؟ أو بلا مؤثر صوتي، وإن كان صمتاً؟ هل تستطيع تخيّل مشهد بلا إضاءة، بلا إكسسوار، بلا قطعة ديكور، أو حتى بلا ممثل؟
يستطيع منظّرو الدراما العبثية، ودراما اللامعقول، الإجابة عن مثل هذه الأسئلة بكلمة واحدة: نعم. نستطيع ذلك. ولكن مشكلة هذا الجواب أنه يحصر نفسه في نوع فني واحد، قد لا يصلح للعرض التلفزيوني. دراما المسرح لا تشبه دراما التلفزيون، ولا دراما السينما، وإن اتفقت هذه الدرامات على عناوين مشتركة.
في الدراما التلفزيونية يكمن سر النجاح في عناصر أساسية، بينما تشكل عناصر أخرى، عمليات دعم وإسناد للعناصر الأساسية، دون أن يعني ذلك أنها عناصر هامشية. العنصر الأساسي والعنصر الثانوي يشكلان الرسمة النهائية للعمل الفني التلفزيوني.
ولعل قصة المسلسل، حدوتته، حكايته، هي أول العوامل. المشاهد التلفزيوني يبحث عن القصة الغريبة. تلك التي يراها على شاشة التلفزيون فينبهر بها. هي ليست قصة واقعية، بمعنى أنها قصة يراها عبر الشاشة فيندمج معها ولكنها لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع. أعظم قصص الدراما التلفزيونية تلك التي تشاهدها فتصدقها مع أنك تعرف أنها لا تحدث في الواقع. ومن المستحيل ان تحدث في الواقع. أما القصص التي تتطابق مع الواقع فهي قصص سرعان ما ينساها المتفرج بعد انتهاء عدد حلقات المسلسل التلفزيوني من العرض. لماذا؟ لأنه يشاهد مثيلاتها كل يوم في واقعه اليومي فلماذا تعلق في ذاكرته؟ والذاكرة مستودع الأسرار. مستودع القصص والحكايات النادرة فقط. أنت لا تحتفظ في ذاكرتك بكل القصص التي مررت بها، إنما تلك التي صدمتك غرابتها.
والدراما واقع محايث. بمعنى أن الكاتب الدرامي يصنع حياة أخرى غير الحياة التي نعيشها. عليه والحالة هذه أن يخلق حياة، شيئاً لا ينسى. وبالطبع لا تشبه حياتنا. قد تتقاطع الحياتان بطريقة أو بأخرى، ولكنهما قطعاً لا يجب أن تتشابها، أو تتطابقا.
ان من أبرز مهمات المخرج الدرامي هو العمل على سد فجوات النص الذي بين يديه، لا تنفيذه.
يكتب المؤلف الدرامي مئات الصفحات، وهو معني، بعد صياغة القصة التي تحدّثنا عنها، بصناعة شخصيات العمل، والعناية بأبعادها، وبشكل خاص، النفسيّة، إلا أن هذا الكاتب يغفل، بقصد أو بدون قصد، عن سرد التفاصيل التي تغني المشهد، بصرياً وصوتياً.
ومن الأمثلة البسيطة، والتقريبية، على مثل هذه الحالة، ما يمكن متابعته في شرح المشهد الآتي:
نحن أمام مجموعة من الشخصيات. المكان: مقهى. تخوض هذه الشخصيات في حديث معين. والحديث، بالطبع، له صلة بما قبله وما بعده من مشاهد في زمن المسلسل.
المؤلف الدرامي أغفل عن ذكر بعض التفاصيل في هذا المشهد، ولكن المخرج لم يغفل.
لقد صور المخرج لقطات عديدة لإغناء المشهد، على شاكلة: قوري من الشاي يغلي على نار هادئة. موقد حطب. رجل يمسك بمسبحة. عامل المقهى وهو يحمل أربعة استكانات من الشاي بيده بمهارة. رجل يخرج من المقهى. رجلان يلعبان الطاولة. مذياع في أعلى الحائط. صورة معلقة لزعيم سياسي أو لشخصية نافذة. رجل يضع يده أسفل خده ويستغرق في نوم عميق... الخ
أنت ترى عدد اللقطات المحتملة في هذا المشهد، وهي لقطات لم يدونها المؤلف الدرامي لسبب أو لآخر، ولكن المخرج اجترحها من أجل تدعيم رؤياه البصرية والسمعية للمشهد. وأنت ترى، أيضاً، أن هذه اللقطات تتميز بقدرات تأويلية، وكذلك لمسات فنية مختلفة ومهارات في التأثيث والماكياج والأزياء وخلق الجو العام.
وإليك المثال الآخر: المؤلف يكتب عن شخصية تضيع في الصحراء. هي عطشى بالتأكيد. وهي حائرة.
هل يكتفي المخرج بمثل هذه الملاحظات؟ كلا.
من الممتع والملائم جمالياً في هذه الحالة أن يعكس المخرج عطش وتيه الشخصية من خلال الملامح: الماكياج، ومن خلال الزي: الملابس التي تعرقت مثلاً. هل ستصدق ما يجري لو أظهر لك المخرج هذه الشخصية التائهة، والعطشى، وهي ترتدي بدلة أنيقة، وبربطة عنق، مثلاً؟
ان العاملين في الانتاج الدرامي ليسوا مكملين لعمل النص الدرامي، أو ملحقين بعمل المخرج الدرامي. هذه نظرية مغلوطة جداً. في الحقيقة أنهم جميعاً ينتجون نصوصهم الابداعية. مسألة ملء فجوات النص الدرامي ليست للتسلية، أو لإكمال الواجب. انها عملية معقدة، ذلك أنها تتعامل مع عنصر الاقناع بالدرجة الأساس. وكما لاحظت، في المثالين السابقين، فإن ملء فجوات المشهدين كفيل بإنجاحهما وإيصالهما إلى المتفرج بيسر، والعكس صحيح.
كثيراً ما نقرأ ونسمع عن موت، أو فشل الدراما العراقية. كثيراً ما نسمع عن سخط الجمهور على هذه الدراما، ولكننا لا نشرح أسباب ذلك الفشل، مع أننا نمتلك كتّاباً ومخرجين وممثلين وفنيين مميزين.
يمكن تلخيص موضوع هذه النقمة برمّته في مسألة الإقناع. فالمشاهد العراقي لا تقنعه الدراما المحلية. وبالرغم من سذاجة موضوعات الدراما التركية، على سبيل المثال، إلا أنها تقنعه، وتشدّه وتثير انتباهه. البعض يقول أن السبب في جمال أشكال الممثلين! لا. أنا أعتقد أن الأمر يعود للقدرة على الاقناع. اقناع المشاهد بأن ما يجري أمامه هو حق صرف، واقع معاش. فهل يمكنك أن تذكر لي شيئاً من هذا القبيل يخصّ أعمالنا الدرامية؟ المسؤولية هنا لا تتعلق بعمل الممثل فقط، بل بكل ما يسهم في صنع المشهد وتقديمه للجمهور. الممثل هو الواجهة التي تختفي وراءها عشرات العناصر، وعشرات الفنيين، والخبرات والابتكارات.
في النتيجة لا يمكن الاعتماد بشكل نهائي على جودة النص الدرامي، مع أهمية ذلك، بل في دقة التفاصيل التي تؤثثت المشهد، وهي التفاصيل التي يكون مسؤولاً عنها عدد من العاملين في الحقل الفني، بدءاً من المخرج وليس انتهاء بأصغر مساحات عمل هؤلاء العاملين. جدير بالذكر أن بعض المخرجين يلجأ إلى تسميات على شاكلة: المدير الفني، أو المشرف الفني، أو مدير المشروع، أو منسق المناظر... الخ تأخذ على عاتقها مراقبة ومتابعة التفاصيل التكميلية للمشهد، إلا أن جهود هؤلاء تصطدم بالفردية، وبالتالي كثيراً ما تقصّر في أداء واجبها.
ان سرّ نجاح العمل الفني التلفزيوني يكمن في تكامل عناصره، بمعنى: أن يقوم الفنّيّون، بمختلف اختصاصاتهم، بإكمال فجوات النص الدرامي.
*كاتب عراقي مقيم في سيدني