لا تفتشوا عن حل للالغاز والاحاجي والحزورات، ولا تنفقوا مزيدا من الوقت في اسئلة من قبيل: كيف حصل هذا، ولماذا ننتكس؟ لن تعثروا على اجابات لانكم تصوغون السؤال داخل اطار الكارثة. ولابد من الخروج عن اطارها لملاحظة الوقائع. اننا لا نمر بنكسة ولا خسارة. في الخسارة يوجد رابح. اما في مصيبتنا فكلنا خاسرون وننزف ونهدر الارواح والسنوات من اجل لا شيء.
اننا لا نمر بخسارة، بل نعيش بصيغة مصممة للخسارات فقط. لاننا قررنا البقاء خارج التاريخ. وما نعيشه اليوم هو مجرد طعم التواجد خارج التاريخ.
ان العالم المتقدم يشبه مدينة عملاقة محاطة بالاسوار، وخارج الاسوار تلك وحوش ضارية ولا قانون يحكم ظروفها سوى المخالب والانياب. ونحن قررنا الخروج من المدينة المحمية بالاسوار الى حيث حفلة الدم خارجها. امضينا عقودا طويلة ونحن نوجه الشتائم للعالم المتقدم، ونحتقر قوانينه، ونسخر من طريقته في الحياة، ثم صرنا نشكك حتى بأهمية معارفه وعلومه، فانقذفنا وراء الاسوار، وها نحن نتذوق طعم الطرد الى حفلة الدم والانياب والسكاكين.
لا يمكن لشعب ان يعزل نفسه عن الدنيا، ثم يأمل ان يبقى في وضع طبيعي مثل اوضاع هامبورغ او سيئول او دبي. ليس الامر متعلقا بمؤامرة كونية، ولا بشجاعة جنودنا، ولا انسجامنا الداخلي. لقد خرجنا من ذوق وقواعد العالم المتقدم وصرنا نكره الموسيقى والسينما، ولا نتعامل مع الشركات الاجنبية، ونقيد حركة النساء، ونشك بكل ما هو حديث، ونبالغ في كل هذه الموضوعات وننشغل بها اكثر من اللازم. لم نعد شركاء للدنيا. كل الاجانب القادمين الينا يشعرون بالوحشة والخوف والغربة. تقمصنا طريقة حياة لا علاقة لها بالعالم. ثم انتكسنا تربويا وتنمويا وحتى صحيا، فغرقت مدننا في القذارة والازبال، وصرنا نسأل انفسنا: كيف يمكن الحصول على مدينة نظيفة؟ اما الان فعلينا ان نسال: بعد ان يعيش الناس سنوات طويلة في مدن تملؤها الاوساخ، وتحرم فيها الموسيقى، ويحاصر الشباب، وتقيد المرأة، ويخشى الاجنبي زيارتها او العمل فيها... هل يصبح صعبا اشعال حرب اهلية؟ وهل تبقى لدينا مهابة امام جار او حليف او دولة صغرى او عظمى، كهيبة تمنعهم من التلاعب بنا؟
ليست خسارة ولا مؤامرة، بل خروج متسارع من التاريخ، هذا طعمه. والدليل ان اصدقاءنا انفسهم حائرون في كيفية مساعدتنا. واعداؤنا حائرون ايضا في حجم "التسهيلات" التي نمنحها لهم بسبب سياساتنا الخاطئة.
انه طعم الجانب الاخر من الدنيا، الموحش، المنشغل بالخلاف حول الله والجدل حول السماء، ومحاولة تحديد الفرقة الناجية، والتلاعن والتكفير، وجعل الناس ينشغلون بالقشور وينسون الجوهر الاخلاقي للاديان وروح العدالة واللياقة والذوق.
وكيف يمكن لمدن غارقة في الازبال ان تمتلك جيشا قويا يدافع عنها؟ وكيف نفشل في تأسيس سياسة بلدية صحيحة تجعل مدننا بمنظر لائق، ثم نطلب من الجيش ان يكون متقنا ومنضبطا وشجاعا ومندفعا، ولا يقهر؟ كيف يمتلك البلد الفاشل، جيشا ناجحا؟ وكيف نتمسك بالعزلة عن الدنيا وتحريم طريقة الحياة الحديثة، ونطالب الدنيا التي نعتبرها كافرة، بان تساعدنا في الامن والاقتصاد والمعرفة والصحة؟
ليس ما حصل مفاجأة، ولا لغزا. انه طعم الخروج من التاريخ. واذ لا نزال نأمل ان ندخل لحظة تصحيح ومراجعة، ونتمنى ان هناك فرصة اضافية لتجاوز اخطاء صدام حسين ومن قبله، ومن بعده، فان ما يستحق ان ننتبه اليه هو ان كل الويلات التي حصلت لا تمثل النكهة الكاملة لمعنى الخروج من التاريخ. بل امامنا ان نتدحرج اكثر فاكثر، وان نهبط في قاع ابعد لنكتشف ان التدهور يمكن ان يصبح بلا حدود حين تنشغل الامم باسئلة خاطئة، وتتمسك بالعزلة عن قواعد الدنيا وتغير الزمان وتقدمه.
انه مجرد تذوق جماعي لطعم الخروج من التاريخ.
خسارتنا ليست لغزا
[post-views]
نشر في: 20 مايو, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 3
أبو ياسر
حبيبي أستاذ سرمد المشكلة اليوم ليست الانتكاسات التي تصيب بلدنا والمنطقة بصورة عامه كما تعلم بل هي في كيفية تحديد خياراتنا والقابليه على أخذ زمام المبادرة واستغلال التقاطعات الدولية في المنطقه وهذا لن يحصل إلا إذا ما راجعنا بنية العقل التي نفكر بها.
مزهر الطرفة
نعم اخي استاذ سرمد صدقت وشخصت مصيبتنا فعلا نحن خارج التاريخ ، والمصيبة اننا او قل هم مصرون تماما على المضي في نفس الطريق ،دائما اقرأ واراك صادقا في ماتكتب ولكن من يقرأ ومن يكتب ؟ جهل وأمية تسلطت بل تكالبت على هذا البلد العظيم والساتر الله من النهاية في حا
ابو سجاد
ياخي ان الذين اخرجونا من التاريخ هم معروفون منهم من ملتحي ومنهم المعمم ومنهم من لبس العقال انتم ةتعرفونهم جيدا هؤلاء هم الذين باعوا البلاد منهم من باعها لايران وتركيا والسعودية لماذا لم تشيروا لهم مباشرتا وتعلنوا الحرب عليهم ماذا تنتضرون اكثر من هذا الانه