اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > مسرح > مسرحية "سفينة آدم، وحياة العراقيين"

مسرحية "سفينة آدم، وحياة العراقيين"

نشر في: 26 مايو, 2015: 12:01 ص

حين تتجمع صفوة من الفنانين التربويين المسرحيين في مقاربة موضوعة الحرب، بأستعارة قصة الطوفان، فأنهم يحفزون المتلقي على المشاركة في الحدث الدرامي، بما يمتلكون من مهارة متقنة، ولياقة احترافية لصنع خطاب العرض الذي ينشط مسارات " التأويل" في الصالة ويعزز ا

حين تتجمع صفوة من الفنانين التربويين المسرحيين في مقاربة موضوعة الحرب، بأستعارة قصة الطوفان، فأنهم يحفزون المتلقي على المشاركة في الحدث الدرامي، بما يمتلكون من مهارة متقنة، ولياقة احترافية لصنع خطاب العرض الذي ينشط مسارات " التأويل" في الصالة ويعزز التداعيات التي يختزنها المتفرج في ذاكرته من مضمرات العنف المتراكمة في العراق .
ظهر المشهد المرئي في سينوغرافية العرض،وهو من تصميم ضرغام البياتي، غارقاً بصقيع الكفن، الذي يغلف بياضه كل قسمات المنظور وزواياه، المتصلة تكويناتها، بخطوط الانابيب والمواسير المتناثرة على السقوف والجدران، وتنفتح فوهة دائرية، كناية عن السفينة التي يقودها " ادم" الذي يرهص حضوره بقيام ساعة الهلع الاعظم، وتدفق الطوفان على البشر في بقعة ترمز الى العراق، الذي استهدفته الكوارث ، والحروب، لتزيل من اديمه اخر اثنين عاشقين، حبيب، وحبيبته، التي نراها تتقلب في دوامة وحدتها، حاملة حقيبتها، باحثة عن عشيقها الغائب ، الذي يناديها بمسميات مثل : الحياة، الدنيا، او بشذى العطور ، واصناف الورود، كما ترسم هي تلك الصورة، مرتدية السواد ، بعباءة عراقية، تتخبط بخطاها وحواراتها الذاتية مع نفسها، مثلت الشخصية المبدعة " شذى سالم" التي عرفت بجديتها ، وهي تؤطر دورها بتكوينات حركية " ميزانسينات" ، واشارات ملازمة لتشكيلات العباءة، بتنويعات ايقاعية مدروسة ، واداء صوتي مقترن بصدى المؤشرات المتصادية، المرافقة ، او التابعة ، بتموجات مسموعة، وصوتيات محرفة، مضخمة، تستجلب معها اطياف من الغرابة والرعب، والوحشة، متفاعلة مع وضعيات تثري ايحاءات الحوار، وتجسم انفعالات الشخصية اللاهثة المعذبة بوحدانيتها، والمفتقدة لصنوها الروحي ، الذي ينبثق من ظلمة الكون، حين تناديه، ليظهر من سديم الموت "مخموراً" مترنحاً، متهالكهاً، فاقداً لكينونته الشخصية،( مثل الدور، بروعة ادائية نادرة " خالد احمد مصطفى"، الذي لعب ادواراً متميزة في عروض و تجارب كاتب هذهِ المقالة ) .
في تطابق تغريبي مذهل، بين شخصية الممثل ، وشخصية الدور، الذي تحقق في " نقاهة" ممثل يقوم من سرير المرض، المميت، وهو ينجو منه بمعجزة ، بأداء دور ينبع من مورد تراجيدي واحد، هذا التماهي مع شبح " الموت" ، دفع بالعرض الى حافة الهاوية، الذي انتاب عملية التلقي، وكأن الجمهور تورط مع الممثلين ، شذى ، وخالد، بما يتهددهما من خطر الطوفان الداهم والمرتقب.
حفّز تناغم التداول التمثيلي بينهما المنظور الفني ، وقاد الى ولادة فضاء جمالي مبهر، والعجب ان قيامة جسد الممثل خالد، جاء صاخباً تارة ، ومموسقا ، ايمائياً راقصاً ، في " نشوة" تارة اخرى، تبررها دوافع الدور ، ويحمل جنباتها، جسد خالد، الذي تدارك انهياره ، ببناء معماري، انبثقت من تلويناته ، خطوط روحية موحية، ودالة على عمق الشخصية الوطني، وذوبانه في حب معشوقته، كان للطابع الساخر ، والموقف ( الجروتسكي) الذي تعمقت اطواره، بالظهور المتواتر ، لشخصية " الميت" الذي ينشر " حيا" اداء " سرمد احمد" ، ويعتمد على تحريك اعضاء جسده الميت، بما اوتي من قوة الموتى المدخرة بالمقابر التي انبثت في عظامه ، واطرافه، ليدخل في حوارية مع العاشقين ، وهو يخبرهم بأستشهاده، ليترك وراءه بيته الجميل ، حالماً بالطيران ، ليستضيف الزائرين في مضجعه الارضي ، وهو يتسامى في اجواز السماوات ومما يعمق هذا الجانب الاسطوري ، المرعب، ما يقوم به ممثل دور " ادم" – (بسمان مخلص) ، الذي يظهر بملابس بيضاء من اعلى وسط المسرح ، مؤطراً بمسافة ابدية دائرية، يطلق تحذيراته للبشر، بالصعود الى السفينة وركوب البحر قبل مباغتة الطوفان لهم .
السفينة ينقصها " اثنان" ليستكمل العدد " اثناعشر" كما يخبرنا ادم، وسرعان ما يعقد الحبيبان قرانهما ، بمباركة الميت! تتعمق السخرية الجروتسكية هذه، حين تخبرنا الشخصيات عن المغدورين بالمفخخات، والرصاصات القاتلة، والعبوات الناسفة، والدخان الخانق، وعن مقاهي النازحين في عراء الفقر والخوف وعن قاتل يقتل جيرانه، والجيران يقتلونه ، وهكذا يتساقط الشهداء، ازواجاً وفرداناً ، كل منهم ذئب لاخيه، ببلاهة طائفية، وعرقية، ودينية، وبقوة تدميرية ماحقة، يتخذ فيها العنف ابعاداً ثقافية خاصة، متحولة الى سلاح سياسي مميت، حيث تحتقن الازمات الفكرية، برموزمرضية صادمة، عاجزة عن تقبل الاخر ، تبتلعها الشمولية، بأحاديتها القطبية المغيبة لحقوق الاخرين، وتعدديتها ، لانها جعلت من العنف ضرباً مقدساً مزعوما، يرتد الى ماترسب في قعر التاريخ من خرافات ، واهواء مسمومة، تقلب القيم الى الحضيض، متنكرة بأزياء التقوى ، كما يمثلها ممثل دور ادم ، في ظهوره الاخر، وهو يحمل مبخرته، التي تنفث دخانها بيد همجية ، يحل فيها سفك دماء من يتصدى مخالفاً لقطعان فصيله الدموي ! فيصبح عرضة للموت تحت شعار ( الموت الزؤام، ان لم يسعفه النصر التام !! )
كما يرفع دعاة العنف من مثل هذه الشعارات الخائبة ، الفاقدة لمعيار الشرف ، والمندفعة في تيار الانتقام العارم والقامع للحريات .
لذا تنفر بعيدا الشخصيات المتحابة ( المرأة والرجل ) من دعوات ادم المتكررة، وهو يحول بياض اهابه المقدس ، الى بياض ( لأجنبي) معاصر ، مدنس، يحمل صفات محتل معربد مخمور .
لا يمكن العبور على ما حققته الموسيقى والمؤثرات التي ( صممها واعدها د.صالح الفهداوي ) من بعد جمالي ليجتذب الجمهور بسحر اللغة السمعية، بدراية احترافية، وقدرة على الاختيار القصدي، الذي وسع دوائر العرض المبهرة الساحرة، التي انصهرت فيها المسارات اللحنيةـ والانغام الغربية والعراقية المحلية، وتضافرت بلاغتها التدليلية لاظهار ما توارى بعيداً في اعماق العراقيين من شرور هذا الزمان، وترديات من ابتلع الوطن كأفعوان ، ويودى بأمثال :
( الحبيب ، وحبيبته، والميت ) ، الذي يتلاعب بعقول الناس بثلاثية اقنعته، (ادم، الداعية، الاجنبي العربيد) الذي يفجر مصائر الناس ، بمثل ما يفعل الحبيب وهو يستخرج " بالوناته" من " الحقيبة" ويفرقعها ، متلاشية في الهواء، كما اندثرت الاحلام، والامال ، تحت سرفات الموت، وما يتركه القتلة من نكبات، وندوب في الروح.
تدلنا هذه التجربة الاخراجية المضيئة في تجربة المخرج "د.ياسين اسماعيل" على وعيه المسرحي الذي ارتقى مراقيه، درجة درجة، ليتوفر على مثل العرض، الاكثر صدقاً في احصاء ذبذبات الروح الوطنية، وسبكها في وسام يليق بصدور العراقيين، والعراقيات في زمن التراجيديات القاتلة, على الرغم من بعض الزوائد غير الضرورية المحومة حول جوهر العرض , وصورته الملموسة .
حتى الاضاءة بمصابيح متواضعة قد تألقت في فضاءات ، تنفتح على افاق متنوعة، افق يلف الحبيبة في ركوب السفينة، وأفق اخر يجعل من الحبيب، والميت الشهيد، رهن احتمال جديد يخص مستقبل الوطن .. العراق .
وهذه المعالجات تأتي متناغمة مع نص ( علي عبد النبي) الذي استقصى المقدس ، الالهي، واشتبك مع خطوط التابو الحمراء , تتطلب احترازا اكثر , وتكريسا مواتيا في الكتابة الدرامية الموحية , بعيدا عن الصخب والمباشرة .
يدرك المخرج " ياسين اسماعيل" الضرورة الانسانية للحب، وعشق الحياة، وللممثل "خالد احمد" الذي بدا وكأنه زوربا الفرح المسرحي العراقي ،أهدى باقة حياة مزدهرة الى زوجته، التي رافقته في محنة موته، وهي كما يسميها فضاء عمره الجديد .
كلية الفنون الجميلة : سفينة ادم
تأليف : علي عبد النبي
اخراج : د.ياسين اسماعيل
تمثيل : د.شذى سالم – خالد احمد – بسمان مخلص- سرمد احمد
موسيقى : د.صالح الفهداوي.
سينوغرافيا: ضرغام البياتي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته
مسرح

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته

فاتن حسين ناجي بين المسرح الوطني العراقي ومهرجان الهيئة العربية للمسرح في تونس ومسرح القاهرة التجريبي يجوب معاً مثال غازي مؤلفاً وعماد محمد مخرجاً ليقدموا صورة للحروب وماتضمره من تضادات وكايوسية تخلق أنساق الفوضوية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram