TOP

جريدة المدى > عام > خاتمة كتاب السيرة الذاتيةللكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

خاتمة كتاب السيرة الذاتيةللكاتب الفيلسوف كولن ويلسون

نشر في: 26 مايو, 2015: 09:01 م

القسم الأخير
 
مع هذا الجّزء من السيرة الذاتية لكولن ويلسون تكون رحلتنا الممتعة معه قد آذنت بختامٍ متوقّع ، و آثرتُ أن تكون نهاية الرحلة مع خاتمة كتاب سيرته الذاتيّة التي وضع فيها الكاتب خلاصة مدهشة لرؤيته الكونيّة ، وأودُّ التعليق هنا أنّ ما

القسم الأخير

 

مع هذا الجّزء من السيرة الذاتية لكولن ويلسون تكون رحلتنا الممتعة معه قد آذنت بختامٍ متوقّع ، و آثرتُ أن تكون نهاية الرحلة مع خاتمة كتاب سيرته الذاتيّة التي وضع فيها الكاتب خلاصة مدهشة لرؤيته الكونيّة ، وأودُّ التعليق هنا أنّ ما نُشر من أجزاء السيرة على صفحات ثقافيّة المدى لايعدو أكثـر من نحو خمسة فصولٍ من أصل السيرة الذاتيّة التي ستُنشر قريباً عن دار المدى تحت عنوان ( رؤية بطوليّة لعصرنا : كولن ويلسون ... سيرة ذاتيّة ) وهي تضمُّ ثلاثة و عشرين فصلاً ( إلى جانب الخاتمة التي أنشرها اليوم ) إضافة إلى إضاءات تمهيديّة تسبق فصول السيرة وتلقي أضواء جديدة على جوانب غير معروفة من فكر الكاتب وحياته الثريّة .

لطفيّة الدليمي

قال فتغينشتاين* Wittgenstein مرّة " قد يكون الغرضُ من الوجود البشريّ أيّ شيء إلّا أن نكون سعداء " ، وأظنّ أنّني عندما كنتُ بالغاً فإنّ قولاً مثل هذا كان كفيلاً بأن يتسبّب لي بإكتئابٍ عظيم ولكنّه يبدو لي اليوم أمراً صحيحاً بصورةٍ بديهيّة لا بالمعنى الّذي قصده شو عندما قال " لا أبتغي من حياتي أن أكون سعيداً بل أن أكون حيّاً وفعّالاً " ولكن بمعنى أنّ كون بقائنا أحياءً وفعّالين يبدو عملاً شاقّاً على الدوام ، ويسري هذا الأمر على جميع الكائنات البشريّة : الملوك والمليونيرات كما سواهم . عندما كنتُ في الثالثة عشرة حلمْتُ أحلام يقظةٍ طويلة رأيتُ فيها نفسي وقد تحقّق لي مستقبلٌ عظيم وغدوْتُ غنيّاً وذا شهرة عالميّة وبات اسمي موضع إطراء وإعجاب الكثيرين ، وعندما نُشِر ( اللامنتمي ) بدا كما لو أنّني بدأتُ بداية موفّقة باتّجاه تحقيق حلم يقظتي الطفوليّ ولكن بات واضحاً لي بعد وقت ليس بالطويل أنّ حلم يقظتي لم يكن بالأمر الحقيقيّ أبداً و فوق هذا فقد أثبتّ أنّه الهدف الخاطئ وأنّني حتّى لو أتيح لي وحقّقتهُ فلم أكنْ عندها لأحقّق السعادة الّتي لطالما حلمتُ بها ، ويشبهُ الأمر تماماً حالة شخصٍ التهم وجبةً فاخرة من الطعام ولمّا يزلْ يشعر بالجوع ، وتيقّنْتُ لاحقاً أنّ أغلب غاياتنا البشريّة تافهة إلى الحدّ الّذي لا تستحقّ معه عبء تحقيقها ولن تكون كفيلة بجلب السعادة المرتجاة لنا في نهاية المطاف وعلى النحو الّذي تصّورناه من قبلُ ولكنّني مع هذا لم أقعْ في فخّ الجانب السلبيّ من الرواية والّتي نظن معها الحياة وهماً محضاً ، و يبدو لي اليوم أنّ ثمّة أهدافا محدّدة نستطيع إنجازها و تستحقّ عبء تحقيقها وسبق لي في هذه السيرة أن رويتُ بعضاً من هذه التجارب الّتي قادتْني إلى هذا الإعتقاد مثل حالة تضخيم الإدراك الّتي تلبّستْني وأنا أقود سيّارتي عبر الطرقات المثلجة من منطقة ( شييبووش Sheepwash) ( يشيرُ الكاتبُ هنا إلى حالةٍ وصفها بالتفصيل في الجزء الأوّل من سيرته ، المترجمة ) و كنتُ في هذه الحالات وأمثالها أدفعُ بوعيي إلى مستوياتٍ غير مسبوقة .
ثمّة إشكاليّةٌ أخرى ملازمةٌ لوجودنا البشريّ : فنحنُ نقضي معظم أعمارنا في حالةٍ من الوعي الأحاديّ البعد الّذي تمثّله الحالة الضيّقة من الوعي والّتي لا ندركُ فيها سوى اللحظة الحاضرة ، وتشبه هذه الحالةُ وجودنا في غاليري ونحنُ مُجبرون على النظر إلى اللوحات وأنوفنا لصيقةٌ بنسيج الكانفاس الّذي رُسمت عليه اللوحات المعروضة بحيثُ لا نرى سوى ذلك الحيّز الصغير المتاح لنا وحسب . عندما أتذكّر اليوم تلك التجارب المثيرة الّتي مررْتُ بها في حياتي أدرِكُ أنّ جوهر ما فعلْتهُ هو أنّني أغلقْتُ الشقوق الّتي كانت تتسرّبُ منها طاقتي الحيويّة و منعْتُ عقلي من الانجراف بعيداً كبالونٍ تائه .
إنّه لأمرٌ في غاية الأهمّية أن ندرك كم أصبحْنا عبيداً للـ ( روبوت ) الّذي بداخلنا ، وأورِدُ هنا مثالاً للعبة تلفزيونيّة تُلقى فيها أسئلة سريعة متتابعةٌ على المتسابقين بحيثُ لا تتاح لهم فرصةٌ كافية للجواب بِـ ( نعم ) أو ( لا ) ولا حتّى لمجرّد هزّ أكتافهم أو إبداء أيّة إستجابةٍ مناسبة ، ويبدو هذا المثالُ توكيداً عمليّاً لنظرة غوردجييف بأنّنا نحيا وكأنّنا " آلاتٌ " وحسبُ . لم أقل في سيرتي هذه ولا في أيّ مكان آخر كلّ ما نويْتُ قوله بحقّ غوردجييف واسمحوا لي الآن أن أؤكّد بأنّني اعتبرُ هذا الرجل المعلّم الأعظم في القرن العشرين وقد يبدو هذا القول مفاجئاً للكثيرين ولكن يبدو لي أنّ الرجل ذاته لم يكن يدركُ هذه الحقيقة .
قال غوته مرّة " كنْ مدركاً تماماً لما ترغبُ في تحقيقه وأنت لمّا تزل بالغاً لانّك ستحقّقه حتماً وأنت في متوسّط عمرك " ، وهنا يبدو غوته مُدركاً بصورة رائعة للحقيقة المدهشة بشأن حصول المرء على ما يرغبُ فيه متى ما أراده بعمقٍ وشغفٍ ، وتبدو المعضلة الأعظم دوماً هي طلب الأشياء الصحيحة من بين كلّ الأشياء المتاحة أمامنا . عندما أتطلّعُ اليوم إلى حياتي المنصرمة أدركُ انّني سعيْتُ دوماً وراء ذلك النوع من الأشياء الّتي سعى إليها رومانتيكيّو القرن التاسع عشر : هدوءٌ و عزلةٌ كافيان لتكريس نفسي لما كان يُمتّعُني أكثر من أيّ شيء سواه وأعني بهذا " لحظات الرؤيا الملهمة " ، وبعد نشر اللامنتمي أدركْتُ أنّ النجاح الّذي حلّ عليّ معه لم يكن أبداً ما سعيْتُ وراءه بل على العكس وجدتُ أنّ أغلب الوقت الثمين يضيعُ مع الآخرين ولم أستطعْ استعادة التركيز على عملي و رؤيتي الخاصّة إلّا بعد أن انطلقْتُ إلى العيش في الكوخ الريفيّ الجميل في كورنوال ، ثمّ كان عليّ دفع ثمنٍ باهظ : أن أقبل بتنكّر النقّاد لأفكاري ومهاجمتها بقسوةٍ وغلظة ولكنّني أحسبُ أنّ هذا الثمن كان عادلاً للغاية معي لأنّ حياتي المنعزلة تلك أتاحت لي أن أختبر ذات الظروف الّتي إختبرْتُها من قبلُ والّتي قادت إلى كتابة ( اللامنتمي ) وأرى أنّ جرعةً إضافيّة من النجاح المماثل لنجاح اللامنتمي كانت ستمزّقُني أشلاءً ، ولم يكن ينبغي أن أنسى طول الوقت حيازتي لعائلة رائعة ومنزل جميل وهو الأمر الّذي لم يكن ليعدلَهُ أيّ ثمن ، وها أنا اليوم و بينما أدخلُ العقد السابع من عمري ( يشيرُ الكاتبُ إلى وقت كتابة سيرته الذّاتيّة ، المترجمة ) أدرك تماماً أنّ واحدةً من أهمّ القناعات غير المتوقّعة والّتي تطوّرت لديّ في حياتي هي القناعة التالية : ثمّة شيء ما في عقولنا يمكنه أن يغيّر نوعيّة حياتنا ، وكان ويلز عبّر على لسان السيّد بوللي عن هذه القناعة بالقول " إذا لم تكن حياتكَ تعجبُك فيمكنُك تغييرُها " ولكنّ ويلز كان يتحدّثُ عن تغيير براغماتيّ في نوعيّة الحياة الّتي نحياها في حين أنّني أرى ثمّة وسيلة أخرى في تغيير حياتنا وتلك هي : استخدامُ القدرة الشغوفة لعقولِنا والّتي نُمضي حياتنا بأكملها ونحن بعيدين عن فهم مدياتها الفسيحة .
بعدما قرأتُ كتاب ( العودة إلى ميتوشالح Back to Methuselah ) علمْتُ أنّ شو كان مصيباً في رؤيته : الوسيلةُ الوحيدة لجعل الحياة البشريّة أقلّ غباوة و عبثيّة هي أن نعيش أطول !! ولكن كيف يكون هذا ؟ قال شو أنّ الأمر يحصلُ ببساطة وتلقائيّة ولكنّني لا أرى في هذا جواباً مناسباً . إنّ ما يبدو لي أكثر وضوحاً اليوم وأنا أغدو أكبر عمراً هو أنّ الطريقة الوحيدة للعيش أطول هو بأن نكون مدفوعين بإحساسٍ قويّ بوجود غايةٍ ما في حياتنا : فالكائناتُ البشريّة تموتُ لذات السبب الّذي يجعلها تنامُ وأعني بذلك أنّها لا ترغبُ في بذل أيّ مجهودٍ إضافيّ للبقاء يقِّظين !! . يبدو لي أنّ أهمّ ما كَتبه غوردجييف من تعليقاتٍ هو التعليق الّذي يقول فيه أنّ الكائنات البشريّة تقضي معظم حيواتها فيما يشبه البيئة السيبيريّة الصقيعيّة وترى هذه الكائنات نفسها وسط بيئة شديدة العدائيّة ، كما يبدو لنا أنّ حياتنا محكومةٌ بقوّة جاذبيّة تجعلُ من كلّ خطوةٍ نخطوها عملاً مرهقاً ويستلزم جهداً متطلّباً يستنفد طاقتنا الحيويّة ، وبعد كلّ هذا يأتي السؤال السرمديّ : لِمَ نحنُ هنا ؟ وسأجيبُ ببساطة ووضوح : نحنُ من اخترْنا أن نكون هنا !! . يبدو لي أنّ الكائنات البشريّة تشبِهُ فريقاً من مستكشفي كوكبٍ بعيد من الذين لا يُتاحُ لهم الاتّصالُ بقاعدتهم الأمّ سوى عبْر جهاز إرسالٍ راديويّ متهرّئ !! . إنّ المشكلة الأساسيّة والأكثر خطورةً الّتي تواجه الكائنات البشريّة هي نسيانُ " لِمَ نحنُ هنا ؟ " وعندها يطغى الارتباكُ والتشويش وضياع التوجّه في هذه الحياة و يمكن للمرء حينها أن يقع بسهولةٍ فريسةً للضجر والملل والكسل ولوْم ما يرى فيه حظّه العاثر !! وأقولُ عند هذه النقطة بوضوح : إنّ أمثال هؤلاء البشر يهدرون حياتهم الثمينة وأحسبُ أنّهم لو أتيح لهم إدراكُ الإمكانيّات الثمينة و الغنيّة الخبيئة داخل ذواتهم فإنّ أوّل ما سيفعلونه هو أن يركلوا مؤخّراتهم بقسوة عقاباً للغباوة التي سلكوا فيها من قبلُ وسيستحيلُ الفجر الرماديّ الّذي تحيا فيه معظم الكائنات البشريّة ضوء نهارٍ ساطعاً وسيكونُ عندها أمام الوعي البشريّ إمكانيّة فتحِ معْبرٍ - ولو جدّ صغير - لولوج عوالم جديدة لم يختبِروها من قبلُ .
تشارك ( أوسبينيسكي Ouspensky ) و ( آر. إج. وارد R. H. Ward ) ذات الرؤية : إنّ هذا العالم الماديّ ليس بالموطن الّذي تتطلّعُ إليه الكائناتُ البشريّة ، وأنّ موطنها الموعود يقبعُ في مكانٍ ما من عالمٍ آخر غير مُستكشفٍ لليوم ، ولكن يمكنني القولُ أنّ البعض - على أقلّ تقدير - من هذه الكائنات البشريّة يمكنُ لها أن تدرك بأنّها - مع ما يكفي من العزيمة والخيال - قادرةٌ على جعل عالمنا هو موطننا الموعود ، ومتى ما تحقّق هذا الأمل أظنّ حينها أنّ الغاية المرتجاة من وراء الوجود البشريّ تكونُ قد تحقّقت .

* لودفيغ فتغينشتاين Ludwig Wittgenstein : فيلسوف نمساويّ حاصل على الجنسيّة البريطانيّة . وُلِدَ في فينّا عام 1889 لأسرة متخمة الثراء ، وتوفّى في بريطانيا عام 1951 بعد إصابته بسرطان البروستات . تتناولُ أعماله بصورة اساسيّة مجالات : المنطق ، فلسفة الريّاضيّات ، فلسفة العقل ، الفلسفة الّلغويّة . درس هندسة الطائرات في جامعة مانشستر أولاً ثمّ انتقل لدراسة الفلسفة في جامعة كامبردج الّتي صار أستاذاً فيها حتّى إستقال عام 1947 من أجل التفرّغ لكتابة اعماله في عزلةٍ ريفيّة تامّة على السّاحل الغربيّ لإيرلندا . مارس الكثير من الاعمال في حياته : فقد عمل بوّاباً ، وعاملاً في حديقة أحد الاديرة ، و مهندساً معماريّاً بارعاً صمّم منزلاً لأخته يعدّ تحفة معماريّة ، كما مارس التعليم في إحدى القرى النمساويّة إلى جانب عمله ممرّضاً في بريطانيا خلال الحرب العالميّة الثّانية . أشتهر من بين أعماله العملان التّاليان :
- مقالة منطقيّة فلسفيّة Tractatus Logico-Philosophicus ، 1922 .
- أبحاث فلسفيّة Philosophical Investigations ، 1953 ( نشِر بعد وفاته ) . ( المترجمة )

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram