كيف يمكن لمتحف أن يكون غريقاً؟ وكيف لنا أن نشاهد محتوياته ونطَّلع عليها؟ أصابني الكثير من الفضول مع رغبة ملحَّة للأطلاع على هذا المتحف الذي سمعت عنه كثيراً، أنا التواق لكل ما هو غريب وجديد ونادر. هكذا كانت زيارتي الى متحف (فراكن ميوزيام) في جزيرة ترسخيلنغ الهولندية الصغيرة الواقعة في بحر الشمال، حيث قضيت هناك خمسة أيام أتجول فيها بدراجتي الهوائية التي أستأجرتها لهذا الغرض. ستة كيومترات هي المسافة التي تفصل المتحف عن البيت الصغير الذي استأجرته من عجوز هولندية لقضاء هذه الأيام. انطلقت بالدراجة بمحاذاة الساحل ومعي خريطة صغيرة أتطلع اليها بين فترة وأخرى، حتى وصلت المتحف، بعد أن أرشدتني اليه يافطة أطلّت على ناصية الشارع، كانت غير واضحة بشكل جيد بسبب مايحيطها من أعشاب ونباتات وأحراش تسلقتها ونامت فوق حروفها الزرقاء الداكنة. أوقفت الدراجة قرب سياج خشبي لحديقة مجاورة وسرت بخطواتي نحو المتحف، عندها فاجأتني في الخارج بقايا غواصة قديمة وضعت قرب المدخل الذي يحيط به من الجانبين مدفعان قديمان يعودان الى سفينة قراصنة من القرن الثامن عشر. بدا لي كل شيء واضحاً وأنا أقرأ بعض المعلومات التي كتبت هناك بخط كبير وتقول بأن كل محتويات هذا المتحف قد عثر عليها في قاع البحر إثر غرق السفن التي كانت تجوبه هنا وهناك في أيام غابرة.
أشار الشاب الذي يعمل هناك - بعد أن قطعت التذكرة - الى الطابق الثاني وأوضح بأن عليّ البدء به لرؤية محتويات المتحف الغريب والغريق! تحدثت معه قليلاً وشرح لي كيف أن هذا المتحف قد تم بناء أغلب أجزائه من حطام سفينة نرويجية كبيرة ذات ثلاثة صوارٍ، كانت غريقة وانتشل حطامها من البحر سنة 1906. بعد أن استمعت الى ملاحظاته تذكرت السلّم الذي رأيته قرب المدخل فعدت اليه، وحين وضعت قدمي على أولى درجاته ضحكت في سري، فقد بان لي بأنه مصنوع من مجاذيف الزوارق التي عثر عليها في البحر، يالها من بداية وأنا أطوف بين محتويات سفن غارقة وأدوات وأشياء استعملها البحارة والصيادون والمحاربون قبل سنوات طويلة مضت.
في الطابق الثاني بدأت تظهر المعروضات والمحتويات التي أراها من خلال فتحات دائرية أو بيضوية تطلّ مضيئة على امتداد الجدران، هي في الحقيقة نوافذ لغواصات غارقة استعملوها هنا لتعطي للمتحف خصوصية وتقرب أجواءه ومحتوياته من مناخ ورائحة البحر. أميل رأسي الى الأعلى لأرى السقف مغطى بأطواق نجاة قديمة فقدت لونها وشحبت هيأتها تتوسطها هنا وهناك مجموعة من الحبال والبراميل المعلقة. أسير في ممرات وغرف المتحف لتظهر لي الأشياء وتتداعى وكأنها خرجت تواً من أعماق بحر مظلم وبعيد، فهنا سلال قديمة بجانبها أحذية بحارة غرقى تحيط بها عجلات قيادة سفن بأنواع وحجوم مختلفة وتظهر في احدى الزوايا مسامير نحاسية وحديدية كبيرة كانت تستعمل في صناعة السفن، تتكئ خلفها مجموعة من المسدسات الطويلة الي تعود الى قراصنة أو سراق من زمن بعيد، وهناك ملاعق طعام عريضة متآكله وقناني نبيذ دائرية مفلطحة ذات أذن أو عروة واحدة تكفي فقط لدخول أصبع، تحجرت فوقها الطحالب، يوضح الكارت الذي قربها بأنها تعود الى سنة 1734 وبجانبها قطعة مربعة قديمة من الموزائيك تعكس محبة الهولنديين الى النبيذ، كتب عليها بالهولندية (حين لا يكون هناك نبيذ، فهذا يعني وجود أزمة أقتصادية) .
مرّ الوقت سريعاً وأنا أتطلع الى هذه العجائب، أشمُّ رائحة بحر الشمال وأرى أشياء لم تخطر على بالي أبداً. نزلت الى تحت وأنا أسحب خطواتي باتجاه الخارج، عندها واجهني بورد مربع أسود اللون وضع على بوابة المقهى والمطعم الصغير التابع للمتحف وقد خُط عليه بالطباشير وبشكل سريع وغير مرتب (وجبة غداء اليوم هي سمك السلمون المدخن) فغيرت خطواتي باتجاه المقهى وطلبت طبقاً من السمك المدخن، أعادني من جديد الى البحر.
إذن لا مناص، فكل شيء هنا يذكرني بالبحر ويعود بي الى عمقه الغامض وبحارته الشجعان وهم يجوبون المجهول بحثاً عن مغامرة جديدة من مغامراتهم التي لم تنته حتى بعد أن غرقت سفنهم واستقرت في قاع البحر.
المتحف الغريق
[post-views]
نشر في: 29 مايو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...