من بودابست الى بوشنفالد الى جائزة نوبل... إقرأ كيرتيش، يقول
في مقالة عن عمل الكاتب الحائز على جائزة نوبل ايمر كيرتيش، يورد مترجمه الى الانكليزية تيم ويلكنسون رسالة من ناشره، يرفض فيها على نحو مهذب عرضا للترجمة: (( إنها بلا شك ليست مسألة فضل
من بودابست الى بوشنفالد الى جائزة نوبل... إقرأ كيرتيش، يقول
في مقالة عن عمل الكاتب الحائز على جائزة نوبل ايمر كيرتيش، يورد مترجمه الى الانكليزية تيم ويلكنسون رسالة من ناشره، يرفض فيها على نحو مهذب عرضا للترجمة: (( إنها بلا شك ليست مسألة فضل على عمل غير كفؤ، بل ببساطة إدراك شديد بالمصاعب التي ترافق تقديم كاتب اوروبي جديد في السوق البريطانية. )) دار النشر البريطانية ميلفيل هاوز، إمّا أنها لم تدرك الصعوبات، أو ببساطة لم تهتم لها. كلا الحالين، من باب الجهل أو في غبطة، قدّمت لنا جميعا معروفا بنشرها ترجمة ويلكنسون لرواية " مَلَفّ كَي ". رغم أن نوع هذا المعروف هو غير واضح تماما.
في ملاحظته التمهيدية، يصف كيرتيش الكتاب بـ (( سيرة ذاتية حقيقية )). ثم يضيف: (( لو سلّمنا بصحة إفتراض نيتشه أن الطراز البّدئي للرواية كشكل فني يمكن إيجاده في حوارات افلاطون، فالقارئ إذن يحمل في يديه أو يديها رواية. )) إذن، رواية، أم سيرة ذاتية؟ الإثنان، ربما.
بُنْيَويّاً، الكتاب هو ايضا ملتبس الى حد ما.من الواضح أنه مستوحى من سلسلة من الأحاديث بين كيرتيش ومحرره، زولتان هافنر – ومع ذلك هو ليس نسخة عن هذه الأحاديث – " ملف كَي " يأخذ شكل مقابلة مع محاور مجهول الإسم.
هذا، بالطبع، هو نهج كيرتيش المميَّز – بسيط ومباشر، مع ذلك هو محرَّف أيضا. روايته " إخفاق تام " ( في الهنغارية، " Kudarc " )، على سبيل المثال، تبدأ: (( كان الفتى واقفا أمام الخِزانة المحشوّة. كان يفكّر... كان يعاني من الكثير من المتاعب والويلات، إذن كان ثمة أشياء للتفكير بها. )) وفي البداية من " تصفية " ( " Felszámolás " ) بطل القصة، كنغبيتر الأعشى، الكسول، المشاكس يقف عند نافذته وينظر الى الشارع تحت: (( كان قادرا تماما على تبديد ساعات من وقته ( في الواقع، عديم النفع ) عند النافذة. )) كيرتيش، شأن كل شخصياته، يقف أمام النافذة، أو أمام الخزانة المحشوّة، امام الوقائع، ويفكّر بها. إنها طريقة واضحة للبداية. طريقة مثيرة للشروع. وهي بلا شك تؤدي الى بعض الخاتمات غير المتوَّقعة.
المولود عام 1929، أخِذ كيرتيش في سن الرابعة عشرة من بودابست ونُقِل أولا الى اوشفيتز ومن ثم الى بوشنفالد. في جملة بليغة لا تُنسى في " مَلفّ كَي " يقول أنه إذ تحرر في النهاية فمن واجبه أن يصلح حياته، (( التي كان عليّ إستردادها من ’ التاريخ ‘، هذا المولوخ [ إله ساميّ كان يُعبَد من طريق تضحية الأطفال على مذبحه ] المفزع، لأنها كانت لي ولي وحدي )). عمل إصلاح الحياة هذا جهّز كيرتيش بثيمته العظيمة، وفتنة بما يدعوه هو اللاقدرية، ’’ sorstalanság ‘‘ – عنوان واحدة من رواياته الأشهر – الذي يعرّفه هنا بـ (( ذلك الجانب المحدد من الدكتاتوريات، التجريد من الملكية، إضفاء الصفة القومية على قدر المرء الخاص به، محوِّلا إياه الى قدر جماعي، تجريد الكائن البشري من جوهره الأكثر بشرية )).
حضور كيرتيش إستثنائي. فهو يتضمن عددا من المساهمات والأفكار والآراء الصامدة بقوة. هو معروف عنه، على سبيل المثال، اعتراضة على كلمة ’’ هولوكوست ‘‘ – (( لطف التعبير [ عن شيء بغيض ]، عفوية جبانة وغير واسعة الخيال )). مُمتحَن من قبل محاوره – هو نفسه؟ – حول مقولة ثيودور اودورنو، أن (( كتابة الشعر بعد أوشفيتز هي شيء بربري، )) يجيب كيرتيش بوضوح وقوة: (( حسنٌ، إذا جاز لي إعطاء جواب مباشر، فأنا أعتبر تلك المقولة قنبلة نتانة أدبية تلوث بلا ضرورة الهواء الذي هو أصلا فاسد تماما. )) تأتي النتانة من ما يراه هو (( إصرار على حق مقصور على معاناة الهولوكوست )). هو دائما صريح، إذ يلاحظ أيضا – كما أبرزه عدة مرات في روايته – أن (( الشيء الوحيد الذي يشترك به يهوديان هو خوفهما )).
خلال " ملف كَي " هو أيضا عديم الرحمة أزاء عمله – (( الفن هو لا شيء اكثر من مبالغة وتحريف )) – وأزاء نفسه. (( على وجه العموم، أنا انحاز الى المرح. عيبي هو أنني لا اثير هذا الإحساس في الآخرين. )) هو حتى يصبح نافذ الصبر مع أسئلته الخاصة به: (( إنها كانت منجزة للغاية. كنت غطّيت ذلك مسبقا مئات المرّات. ))
ومع ذلك، موضوعية كيرتيش المنفِرة – يمكن القول، صرامته – متوافقة مع توتر حلو بعض الشيء من السوداوية والنوستالجيا، والكثير من المتعة التي يقدمها الكتاب مستمدة من تذكّره تفاصيل عن حياته المبكرة في هنغاريا، عن الماتزو [ خبز فطير يأكله اليهود في عيد الفصح ] المغمّس في القهوة، وسكائر هيرزيغوفينا، الصوت الذي يحدثه والده بسحق الثوم بجلبة على الخبز المحمّص، حماسة طفولته لروايات الهورنبلاور لسي اس فوستر.
كان من المهم أن يتذكّر كيرتيش ويكرر كل هذه الأشياء، لأنها اصبحت منسية في هنغاريا. حديثا، في مقال قصير لكنه مهم في مجلة نيويوركر، يقابل الروائي هاري كنزرو عددا من الكُتّاب، الموسيقيين والمفكرين الذي عبّروا عن قلق شديد من نزعات وسياسات حكومة البلد اليمينية. جورج شيرتز، الشاعر البريطاني والهنغاري الأصل، تفوّه بأكثر التحذيرات جدية: (( في الواقع، إنها تريد أن تحوّل البلد الى الحالة التي كان عليها في الثلاثينات... الجو مفعم بالكراهية... ضارّة بالبلد ألذي أحببته وفخرت به. شيئا فشيئا، أجد كل جزء منه مفككا ومُبعَدا. )) إنتبهْ الى شيرتز. إقرأ كيرتيش.
عن: الغارديان