سجّل قائمة بالأزمات، والانعطافات، والكوارث التي تدفع ( البطل الكتوم )، الرواية السادسة عشرة الفاتنة لماريو بارغاس يوسا، فتبدو لك أشبه برواية رخيصة مبتذلة المعنى. لكننا نتحدث هنا عن بارغاس يوسا، الفائز بجائزة نوبل الذي كانت حياته الخاصة ــ صحافياً، ون
سجّل قائمة بالأزمات، والانعطافات، والكوارث التي تدفع ( البطل الكتوم )، الرواية السادسة عشرة الفاتنة لماريو بارغاس يوسا، فتبدو لك أشبه برواية رخيصة مبتذلة المعنى. لكننا نتحدث هنا عن بارغاس يوسا، الفائز بجائزة نوبل الذي كانت حياته الخاصة ــ صحافياً، وناشطاً، و مرشحاً ذات مرة لرئاسة بلده بيرو ــ أي شيء إلا أن تكون متّسمة باللطف أو الوداعة. و إذا استطاع أحدٌ أن يأخذ الابتزاز، وإحراق المباني، والزنا ويصنع من ذلك قصة أدبية، فإنه الفتى الذي كان يبجّل في الأول الروائي الكولومبي غارسيا غابرييل ماركيز ثم اشتبك معه في عراك عام بالأيدي تاركاً بطله الأدبي بعينٍ تحيط بها بقعة سوداء.
تبدأ أحداث رواية ( البطل الكتوم The Discreet Hero ) مع رسالة ابتزاز يجدها فيليسيتو ياناكي، صاحب شركة متواضع الحال في بلدة بيورا على ساحل بيرو الشمالي، مثبّتةً على الباب الأمامي للشركة. و يهدد الطلب، المكتوب باليد وعليه رسم عنكبوت، فيليسيتو وأحبّاءه بالأذى الشديد إن لم يبدأ بدفع 500 دولار كل شهر حمايةً له. لكن فيليسيتو لا يذعن. وكان كل ما ورثه عن أبيه المفتقر، الذي راح يكد ليلاً ونهاراً ليستطيع فيليسيتو أن يشق طريقه إلى حياة أفضل، كلماته الأخيرة وهو يموت : " لا تدع أحداً يدوس عليك، بُنَي "!
ويطيع فيليسيتو. فيذهب أولاً إلى البوليس ثم إلى صديقه أديلَيدا، وهو ناظر يدير محل خردوات متداعٍ في منطقة المسلخ من المدينة. لكنه يتجاهل نصيحتهم بالدفع ويتخذ بدلاً من ذلك موقفاً عاماً ضد المبتزّين، وهو قرار يؤدي إلى شهرة غير متوقعة، و إلى الحل السريع لحياته.
وهناك في ذلك الوقت يوشك محامٍ يدعى دون ريغوبيرتو على الوقوع في شبكة عنكبوت أخرى. إذ يطلب منه مستخدمه في الشركة التي يعمل فيها مديراً، اسماعيل كاريرا، قبل أسابيع قليلة من تقاعده المبكر، مساعدته على الهرب مع خادمته التي يحبها. وكان ابنا اسماعيل التوأم المعروفان " بالضبعين " لسلوكهما الاجرامي المتوحش يحتفلان بموت أبيهما الوشيك حيث يرقد في المستشفى بعد إصابته بنوبة قلبية. فينتقم اسماعيل منهما مع الشفاء السريع ويخطط لزواج صادم لهما وحرمانهما بالتالي من الميراث الذي يتلهفان إليه.
وإذ يقوم الضبعان بانتقامهما، وينحرف موقف فيليسيتو ضد المبتزين في اتجاهات مختلفة، فإن بارغاس يوسا يجدل الحكايتين معاً. وهي مبادلة بسيطة للفصول، ثم مزج تدريجي للموضوعات ــ الآباء و البنون، الشيخوخة، القوة ــ إلى أن تنشطر الحبكتان فجأةً، ثم تتصلان.
وسيتعرف قراء بارغاس يوسا على شخصياته هنا من أعمال له سابقة. فهناك ريغوبيرتو، لصيق المكتب نهاراً، المنغمس في الملذات ليلاً، الذي حوّل بارغاس يوسا مآثره الشهوانية في روايتي ( في مديح الخالة ) و ( دفاتر دون ريغوبيرتو ) إلى كتاب للجنس أو الخلاعة. فهنا نجد زوجته الميّالة للحب، كما هي حال ابنه، فونشيتو، والسارجنت ليتوما، الشرطي الشريف إلى حد رفضه الرشوة، يقومان بعودة حميدة.
و تحصل هنا على شيء من التعليق السياسي الذي عُرَف بارغاس يوسا به ــ فهناك حديث عن العنصر، والطبقة، والبروز في قطع الطريق والسرقة كنتيجة لنمو بيرو الاقتصادي ــ لكن المؤلف يهزل على الأغلب هنا. حبكات تولّد حبكات داخلية تؤدي إلى قصص خلفية ذات قصص خلفية خاصة بها. ولا إزعاج هنا، مع هذا، فأنت بين يدي أستاذ بارعتين. وهذا بارغاس يوسا، الذي تعلم في مدرسة بيورا الابتدائية، يكتب عن مشهد طفولته:
[ ... كانت ضوضاء المدينة قد انطلقت آنذاك، وأرصفة المشاة مليئة بالناس وهم يذهبون إلى المكاتب أو السوق، أو يأخذون أطفالهم إلى المدرسة. وكانت بعض النسوة الورعات في طريقهن إلى الكاتدرائية من أجل قدّاس الساعة الثامنة. وقد راح الباعة المتجولون ينادون على بضاعتهم : حلويات دبس السكّر، قطع الكراميل على أطراف العيدان، شرائح البطاطة المقلية، وكل أنواع الوجبات الخفيفة؛ ولوسيندو الرجل الضرير وعلبة الصدقات عند قدميه، وقد استقر في الزاوية تحت سقيفة البيت الاستيطاني. كل شيء كما كان في كل يومٍ بالضبط أيام زمان.]
إن ( البطل الكتوم ) هي قصة النور والظل، لعبة أخلاق في مزلقة الأوبرا الصابونية. إنها هزلية ومضحكة، مليئة بالبهجة والمرح، و إذا ما صدّقنا بطلَي بارغاس يوسا، فإن التكتّم هو قلب الشجاعة النابض.
عن: Barnes & Noble Review