3-3
التراجيديا "الدموية" هي الهاجس الذي يسيطر على إبداع الروائي المكسيكي الأسطورة صاحب "بيدور بارامو"، خوان رولفو على الدوام؛ التراجيديا حاضرة في القصص القصيرة العشرين التي ضمتها مجموعته القصصية "السهل يحترق"، وفي روايته اليتيمة "بيدرو بارامو". كما لو كان خوان رولفو يريد تثبيت براءة اختراع خاصة بأسلوبه القصصي والروائي، وربما ذلك ما جعله يكتب في دفاتره عن روايته/المشروع التي لم تر النور "السلسلة الجبلية" بأنها "حوار أموات": "الحكاية تبدأ بأن يروي ميت لميت آخر...القرية ميتة أيضاً". ولكن حتى رباطة الجأش، التي تقترب من عدم الشعور بالألم للقاص خوان رولفو، لا تستطيع تهدئة الصدمة المرعبة للنتائج "الدموية" لقصصه القصيرة. من المفارقة أيضاً، عندما نعرف أن ازدراء الكاتب للقصص يؤيد هذه الفكرة. ويكفي المرور على قصص خوان رولفو لكي يرى القارئ إصرار الأب الروحي للواقعية السحرية في الأدب الروائي لأميركا اللاتينية، أعني إصراره بالكتابة عن "شخصيات وجودها وحده يجسد دراما لا تنتهي من اليأس"، كما علق أحد النقاد الإسبان في ملف خاص عن خوان رولفو في صحيفة الباييس، وهو يلامس بحق النقطة الحساسة في أدب خوان رولفو، وميزته، اختلافه عن معاصريه من كتاب المكسيك وكتّاب أميركا اللاتينية، قارة "مائة من العزلة" عموماً، ففي قصة "ماكاريو" هناك قلق يسحق بطل القصة بسبب وجود الصراصير، حتى ينتهي به الأمر إلى شنق نفسه، أما في قصة "تالبا"، فيملأ ضمير الراوي الندم بسبب جريمة قتل كان قد ارتكبها ضد "تنتانيلو"، بينما في قصة "تذكر" نجد أن أوربانو لديه علاقات جنسية مع ابنة عمه ويقتل حماه "ناجيتو" بسببها؛ وفي قصة "عقاب العرابات"، نعثر على جزء من اعتراف كان قد سمعه خوان رولفو من أحد القساوسة، قال له بفخر: "كل أولادي قتلة"؛ أما في قصة "في الفجر"، فينام جون خوستو بامبيلا مع ابنة أخيه. وفي بيدرو باراما (لنلاحظ اللعب بالأسماء هنا)، تبصق سوزانة سانخوان على الخوري الذي يزوجها من أخيها. ليست الشخصيات القصصية فقط هي التي تعيش هذه التراجيديا "القاتلة"، إنما تعيشها الطبيعة أيضاً: ففي قصة "أعطونا الأرض"، نتعرف على قرية صغيرة نائية أسمها "لوفينا"، "ذلك المكان الذي تُسمع فيه الريح ... وليس غير الريح فقط"، أما القرية الأخرى، القرية الأصغر حقيقة، والتي أسمها "كومالا" فهي مجرد "قرية تسكنها الأشباح ... ليس غير الأشباح فقط. والأكثر رعباً في كل هذا هو أن كل هذه التراجيدية "الدموية"، أعني بكل تفاصيلها التي نقرأها في القصص أو في أدب خوان رولفو عموماً، أو حتى تلك التي لم نقرأها مباشرة في النصوصو، لكننا نشعر بها مبثوثة بين السطور ، تحلق في الجو العام للقصص، كلها تبرز بشكل ملفت للنظر في جميع ملاحظاته الشخصية التي نقرأها في "دفاتر خوان رولفو"، سواء تلك التي لها علاقة بالبيئة العامة أو بتلك التي لها علاقة بشخصيات قصصه. فهو عندما يعود ويستذكر قرى منطقته التي ترعرع فيها، يعترف بأن "في تلك المناطق جرت أكثر الأحداث إثارة للرعب"، لنقرأ: "ترعرعت في سان غابريل وهناك حدثني الناس قصصاً عديدة، فيها الكثير من السيوف والحروب والجرائم".
يمكن القول في النهاية، أنه بالإضافة إلى القيمة الجمالية الكبيرة التي اضافها الروائي المكسيكي الأسطورة خوان رولفو للأدب العالمي في كتابيه المشهورين "السهل يحترق"، و"بيدرو بارامو"، إلا انهما من الناحية الأخرى، كانا تمرينين كافيين بالنسبة له، جرب عن طريقهما قدرته على استدعاء الرعب والألم، ولم يشأ تكرار ذلك مرة أخرى في أي عمل جديد!
في صمت خوان رولفو
[post-views]
نشر في: 2 يونيو, 2015: 09:01 م