TOP

جريدة المدى > عام > التعليم العالي في العراق إلى أين؟..دور الجهاز الإداري في الواقع السلبي (13)

التعليم العالي في العراق إلى أين؟..دور الجهاز الإداري في الواقع السلبي (13)

نشر في: 6 يونيو, 2015: 12:01 ص

هل جامعات العراق في سفينة غرقى؟ أظن نعم، ولكني آمل أنْ (لا)!!، نقول ذلك بعد أن وصل البؤسُ إلى جل مرافق التعليم العالي، وبضمنها الجامعات، ليقود اليأس إلينا، وإنْ لم يأتِ على نبضات أمل لا تزال تتردد ضعيفةً فينا، كما نزعم أنها تنبض في دواخل الكثير من ال

هل جامعات العراق في سفينة غرقى؟ أظن نعم، ولكني آمل أنْ (لا)!!، نقول ذلك بعد أن وصل البؤسُ إلى جل مرافق التعليم العالي، وبضمنها الجامعات، ليقود اليأس إلينا، وإنْ لم يأتِ على نبضات أمل لا تزال تتردد ضعيفةً فينا، كما نزعم أنها تنبض في دواخل الكثير من الأكاديميين البعيدين عن السلطة وعن قيادة وإدارة هذا التعليم، وعن كراسي المناصب. ونقول ذلك بعد هذه الرحلة الطويلة التي بدأناها منذ ستة أشهر مع سلبيات واقع التعليم العالي في العراق، لم نخرج عنها إلا في المقال السابق، حيث سحبنا لأول مرة نفس ارتياح في ضوء بعض إيجابيات رصدناها وأنعشت الأمل فينا.

على أية حال نقول ما نقوله عما نراه واقعاً سلبياً فرضته هيمنة ثلاث قوى أو سلطات تنخر بالتعليم العالي وبجامعاته بدلاً من أن تطوّره: السلطة الأولى هي السلطة السياسية بكل ما تنطوي عليه ،في العراق، من محاصصات طائفية وشللية وفساد صار يزكم أنوف البشر، لا في العراق فحسب، بل في العالم كله. السلطة الثانية، هي سلطة مسؤولي التعليم العالي الذين غالباً ما رأيناهم قد فشلوا في امتحان الاختيار ما بين الأكاديمية وكراسي المناصب، فاختارت غالبيتهم الكراسي لتكون النتيجة الممارسات البيروقراطية واللا أكاديمية والفردية وربما الفاسدة والعابثة. أما السلطة الثالثة فهي السلطة الإدارية، بسعة ما تعنيه من إدارة ومالية وخدمات وأمن، التي تكاد تهيمن على مسار التعليم العالي اليوم لتقوده إلى ما لا يلائمه من ممارسات وتعليمات و(سياقات) ما هي، في حقيقتها، سياقات سليمة وعصرية، وهذه السلطة الثالثة هي موضوع هذا المقال الذي سينقسم إلى قسمين، نبدأ هنا بالأول منهما، ونترك الثاني إلى المقال التالي.
بقي أنّ هذا كله، إذ بدأ بشكل قوي ومباشر وفاعل مع الوزارة السابقة، فإنه قد تعزز في الوزارة الجديدة بعد أن عقدنا الآمال والأحلام والمتخيّلات على إصلاح ما فسد، إذ لم تبادر هذه الوزارة بعمل أي شيء يصب في ما حلمنا به من إصلاح وتعديل مسار وبث النفس الأكاديمي والعلمي في هذا التعليم، فانهارت الأحلام وتبخرت المتخيّلات وكادت السفينة، وقد انفلتت الدفة، أن تغرق.
من المنطقي أن يكون واقع أي شيء وأي مرفق واي نظام في العراق خيراً من مثيله في عراق السبعينات والثمانينات مثلاً، ببساطة لأن العراق تخلص في هذا الزمن من تبعات النظام الدكتاتوري الشمولي المركزي الذي يمنع غالباً أي مرفق أو نظام من التطور والاستجابة لمتطلبات العصر والمرحلة والمواطنين. نقول هذا هو المنطق والمفترض.. ولكن واقع الحال يقول إننا، في العراق، لا نساير منطقاً، كما أن مسؤولينا لا يشاهدون غالباً واقع الحال هذا. أفلم يدعو السيد المالكي، قبل سنوات والعراق مدمّر وفي حالة انهيار بنى تحتية ومؤسسات، البلدان العربية إلى الاستفادة من تجربة العراق في الإعمار؟ وألم يقل السيد الجعفري مثلاً قبل سنوات أيضاً، وحين صار العراق في ذيل قائمة كل شيء حسن وفقاً للإحصائيات الدولية: "إن العراق صار في طليعة دول المنطقة- ثم يستدرك- بل دول العالم"؟، وألم تندهش الدنيا كلها، حين قال السيد الجعفري نفسه- وهو وزير خارجة: "إن حكومتنا حكومة ملائكية"؟ وتبعاً لذلك أليس من المنطقي أن نقول: إن العراق لا يساير منطقاً، كما لا يساير تطوراً ولا يستجيب لمتطلبات عصر ومرحلة ومواطنين؟.. بلى هو في أوضاعه شذّ عن كل ما عرفتْه بلدان العالم وأنظمتها. فهو، في (تحرّره) الشكلي لم يشبه أي بلد متحرر، وفي (ثرائه) الضائع لم يشابه أي بلد ثري، وفي مساره التخلّفي نحو المستقبل، لم يشبه اي بلد يسير نحو المستقبل، وفي تجاوزِ مراحلِ اقتتالٍ وحروبٍ وصراعاتٍ داخلية، لم يشبه أي بلد تجاوز مثل ذلك فسامح وعفا وتصالح.
نقول هذا، وأول ما يخطر في البال، حين يتعلق الأمر بدوائر الدولة، هو سياقات العمل ومكانة الإدارة فيها، وهو ما يقودنا ونحن لا زلنا نخوص، متعَبين وحزينين ومتحيّرين وربما (مسطورين)، في التعليم العالي وجامعاته بشكل خاص، إلى تأمل مثل هذا الواقع، ومن الطبيعي أن يداعبنا أمل في أن لا نجد في هذا التعليم الحال الكالحة التي عليها دوائر الدولة الأخرى، كون دوائر التعليم العالي، وأهمها الجامعات، دوائر النخبة الراقية الأكثر تعلماً ورقياً والمفترض أنها الأكثر مواكبة للتطور، وهو فعلاً ما نجده، ولكن ليس من خلال صورة وردية أو شبه وردية بل من خلال صورة أكثر سواداً، كما تتمثل في أجهزته الأدارية والمالية والخدمية وصولاً إلى الأمنية الملحقة بها. وكل ذلك إنما يتمثل من خلال مظهرين رئيسين تنطوي تحت مظلّتهما سلوكيات و(سياقات) معذّبة كثيرة: المظهر الأول هو الأنظمة والتعليمات و(القوانين) التي تسوّق سلوكياتها وتعملق مسؤوليها، كما رأينا الكثير من مظاهرها في بعض مقالاتنا الاثني عشر السابقة، وفي بعض مقالنا الحالي. الثاني هو خضوع الأكاديمية، نظاماً وقِيماً وإنساناً ومسؤولاً، للإداري المسؤل وهو يتسلّح بعصا التعليمات والنظم ومفاتيح ما يصوّره للأكاديمي على أنه القانون، الأمر الذي جعل الأكاديمية، مؤسسةً ومسؤولين ومنتسبين، خاضعة له ليقود الجامعة، في النتيجة، إلى التردّي والتلكؤ في مسيرتها التعليمية والتربوية والأكاديمية.
وقبل الانتقال إلى مجالات تأثير الإدارة السلبي في الوسط الأكاديمي مؤسساتٍ وكوادرَ، في مقال قادم، نود هنا عرض مثال على ما يمكن للإداري أن يفعله بالأكاديمي، وهو مراجعة لإحدى كليات جامعة بغداد قبل عام تقريباً عانينا فيها الأمرّين- كما يُقال- رغم بساطة ما كنا نبغي الحصول عليه. وحين حصلنا على بغيتنا (بطلعان الروح) أصررت على كتابة مذكرة لعميدة الكلية شارحاً ما جرى، أملاً في أن تتخذ بشأنه أمراً ما. اختصر تلك المذكرة بما يأتي:
إلى الدكتورة عميدة كلية (؟):
أكتب إليكم، بعد أن استجابت الكلية أخيراً لطلبي الذي يبدو- وهذا ما اكتشفته مؤخراً- أنه من أخطر الطلبات التي يتقدم بها مراجعون للكلية، وهو طلب تأييد لعمل ابنتي محاضِرةً في كليتكم، أي بتعبير آخر شهادة خبرة، وبعد ما لاقيتته من بعض الموظفين ولاسيما السيدة (م) التي يبدو أنها لا تنظر إلى من له طلب أمامها إلا بوصفه مراجعاً يجب أن يتعذب قبل أن ينال ما يريد مهما كانت بساطة بل تفاهة هذا الذي يريده. فإذا قبلنا منها عدم ثقتها بي وأنا أستاذ سابق في هذه الكلية، ولا بابنتي المحاضرة سابقاً لديكم، ولا بالدكتور (ط) الذي كان رئيس قسم اللغة العربية سنة قيام ابنتي بإلقاء محاضراتها، ولا بالدكتورة (ع) التي كانت مقررة القسم حينذاك، وهي حالياً رئيسة القسم، ولا بالدكتور (أ) الذي كان زميلاً لابنتي وجاء يؤيد ذلك، فلا أدري كيف نتقبّل أن تتجاوز بل لا تحترم تأييد رئيسة القسم الحالية فتتعالى عليها وعلينا جميعاً لتتعدد طلباتها التي توالت تباعاً بتعذيب لا يمكن إلا أن يكون متعمداً وبمحاولة إذلال المقابل رغم كونه أكاديمياً، وربما لأنه أكاديمي. ولأتجاوز عدم تنازلها حتى للاستماع إلينا في مكتبها، واضطرارنا لملاحقتها وهي تتنقل بين مكاتب دائرتها، وأنتقل إلى مطالبتها لما يوثّق رسمياً تكليف ابنتي بإلقاء المحاضرات. سيدو الأمر لكم هنا طبيعياً. ولكن لننظر إلى ما أرادته تحديداً لنرى إن كان طبيعياً فعلاً. لقد أرادت أولاً تأييد رئيس القسم الحالي ثم تبعت ذلك بتأييد رئيس القسم السابق، ثم طالبت بما يوثّق ذلك رسمياً، وحين تم العثور على مثل هكذا وثيقة، طلبتْ أن نجد لها هذه المرة ما يؤيد ذلك في محضر لمجلس الكلية، فكان علينا أن نبحث في محاضر مجلس الكلية قبل ثلاث سنوات وفعلنا ذلك.. ثم أرادت أن نُثبت، بشكل ما، ومع وجود المحضر، أن ابنتي قد مارست فعلاً التدريس.. يا إلهي!، والله إني لأستغرب كيف تسير الأمور الإدارية في كليتكم بوجود مثل هكذا موظفة، أفترض أنها ليست الوحيدة؟. وإني لأتساءل، سيدتي، متى تتجاوز جامعاتنا مثل هذا؟ ومتى نتوقف، نحن الأكاديميين وحضرتكم منا، عن تمكين مثل هكذا موظفين من التجاوز على الأكاديميين؟ ومتى نلحق بجامعات العالم، بل المنطقة، في أبسط السياقات؟ ومتى نحاسب مثل هؤلاء الذين يعرقلون هكذا لحاق؟.
لقد احتاجت ابنتي لشهادات خبرة من الكليات التي عملت فيها، فتقدّمتْ بطلباتها للكليات المعنية، وهذا حق لها ولكل من يطلبها، بل إن هذا أحد السياقات الروتينية جداً جداً التي يجب أن لا تأخذ من الموظف أكثر من دقائق، في جميع جامعات العالم، بل إن الجامعات عادةً ما تعمل مثل هذا، بدون طلب، لكلّ من يعمل عندها أو يلقي محاضرات فيها أو يشارك في مؤتمرات تقيمها، فماذا تتصورون النتائج؟ حسناً، لقد زودتْنا كلية اللغات الراقية بهكذا شهادة خلال أقل من ساعة، وأرسلتْ كلية من نيويورك الشهادة إلى ابنتي بريدياً لتصلها خلال بضعة أيام، بينما كان علينا، ومن يركض معنا، أن ننتظر أكثر من ثلاثة أسابيع، ونحن نستجيب بشكل دائم لطلبات السيدة (م) التي ما كادت تنتهي، لتتكرم أخيراً بإنجاز ما يتعلق بكليتكم، وحتى هذا ما انتهى إلا بعد إصرارها على أن نحدّد الجهة التي تُوجه إليها الشهادة، وهذا أمر عجيب وغريب وينمّ إما عن جهل تام للموظفة، أو عن بيروقراطية عقيمة اعتادتها، أو عن رغبة في النيْل من الأكاديميين وإذلالهم، والأخير هو ما نميل إليه، لأن أكثر موظفي وأساتذة وطلاب الجامعات جهلاً في الدنيا كلها يعرف أن مثل هكذا شهادات يتزود بها المعنيّ حين يشد الرحال بحثاً عن عمل أو عن جامعة يكمل فيها دراسته، أو توثيقاً لسيرته الأكاديمية، أو حتى لتعليقها على جدار بيته. الموظفة تدّعي بأن هذه تعليمات، وإني لأُقسم أن هذا غير صحيح، والتعليمات لا تتعلق بهذا إطلاقاً، وإلا بالله عليكم، سيدتي، كيف لابنتي أن تحدد الجهة التي توجّه إليها شهادة الخبرة، وهي تستعد للسفر إلى الخارج بحثاً عن جامعة تعمل فبها أو تكمل دراستها فيها؟.. ثم ماذا سيكون رد الكلية إذا ما أرادت ابنتي أو أردت أنا، الذي سبق لي العمل في كليتكم، مثل هكذا شهادة لنحتفظ بها تأييداً لما في سيرتينا الأكاديميتين؟ أليس هذا من حقنا؟ أرجوكم سيدتي، أرجوكم أنقذونا وأنقذوا أساتذتكم وطلبتكم ومراجعيكم وضيوفكم من هكذا موظفين؟ فليس من سبيل للتقدم بالعمل الأكاديمي بوجود أمثالهم، وانصفوا الأكاديميين والعمل الأكاديمي.
إن مثال الكلية هذه يجب أن لا يُؤخذ بحجمه، وبكونه يتعلق بشخص واحد، بل بدلالته، وبما يمكن للإداري، حتى وإن كان موظفاً صغيراً، أن يفعله من تعويق سياق وتأخير أعمال وتأثير في شؤون جيش من الأكاديميين، خصوصاً إذا ما اقترن بتجاوزات وسياقات خاطئة و(تعليمات) زائفة أخرى مما سنأتي عليها في المقال القادم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram