هكذا هو حال رسامين كثيرين في تاريخ الفن ، من الفاقة والبساطة والفقر الى واجهة الإعلام والاهتمام الجماهيري الواسع . طالما شغلني هذا الموضوع وفكرت به كثيراً ، وها هي فرصة جيدة أن أكتب عن فنان من هذا النوع ، فنان تمتعت برؤية أعماله في متحفه الشخصي ، أنه الفنان يوبي هاوسمان ( 1922- 2000 ) ، هذا الرسام الشهير الذي تحتل أعماله بناية المتحف الذي يحمل اسمه بمدينة فوركم في هولندا .
هكذا وبكل بساطة تحول صياد السمك البسيط الى رسام مشهور ، يوبي المنشغل برسم أشيائه القديمة التي تقبع في كوخ خلف بيته الذي تحول الى مزرعة ومكان لتحضير السمك المدخن الذي يصطاده بنفسه . أتجول قليلاً في الخارج وأتوقف لتطل عليّ اللوحة التي وضعها المتحف على الواجهة لتكون أعلاناً ودعاية له ، وهي بورتريت رسمه يوبي لنفسه وهو منشغل بلف سيجارة من كيس التبغ الذي يحمله معه دائماً . أنظر الى المتحف بهيئته الخشبية التي تشبه شجرة كستناء كبيرة بأغصان قوية مثمرة لأقرر الدخول ورؤية هذه الاسطورة الشعبية . وهناك في الداخل تتلاقفني التفاصيل وكأنني أعيش وسط قرية هولندية في سنوات بعيدة مضت ، حيث تظهر أحذية الفلاحين الخشبية الضخمة التي يسميها الهولنديون ( كلومب ) وقد رسمها في لوحات كثيرة ، أطل برأسي الى قاعة أخرى من المتحف لتظهر اللوحات التي رسمها لأفراد عائلته وبجانبها أرى بوضوح قمصانه الحمراء المتهرئة التي رسمها في مجموعة كبيرة من اللوحات وهي معلقة على الحبال وتحيط بها ظلمة الكوخ ، وقد أصبحت هذه اللوحات شهيرة جداً لأنها طبعت بأعداد لا تحصى كبوسترات تباع بأسعار رخيصة يعلقها الفلاحون في بيوتهم وهم يحتفون برسامهم المحبوب .
المتحف مقسم الى أقسام عديدة تضم أعماله الزيتية بكل مراحلها وتخطيطاته للشخصيات التي يعرفها ومنهم بالتأكيد أبوه العجوز وأمه وحتى أبناؤه وبناته ، وفي الجانب الآخر مقتنياته الشخصية التي تحتوي على اشياء قديمة جداً ، فقد كان هاوسمان مولعاً بالأشياء القديمة و يعمل على أقتنائها ويتاجر بها ، وهو كان يعمد الى رسمها قبل بيعها ، ثم ينتظر حصوله على أشياء جديدة كي يرسمها هي الأخرى ليبيعها من جديد ، وهكذا كان دائماً ما يحصل على مواضيع جديدة للرسم ، لهذا السبب نراه يصور في لوحاته الأنتيكات مثل الدمى القديمة والأدوات التي يستعملها الفلاحون والصيادون وحتى ملابسهم القديمة الممزقة وقبعاتهم التي تغير لونها منذ زمن بعيد . أنه ببساطة يعشق الاشياء الصغيرة والقديمة التي تظهر عليها بصمات الزمن ، لهذا نراه لا ينفك عن رسمها ، فهنا لوحة لسراويل مستعملة وهناك أعمال تظهر فيها براميل معدنية تستعمل لحفظ الحليب وبجانبها كراسي من طراز قديم ، وهو حين يقرر أن يرسم موضوعاً جديداً فهو لا يذهب بعيداً عن الكوخ ولا يحتاج سوى الى أن يلتفت ليلتقط مشهد السمك المدخن المعلق على حبال وكأن رائحة السمك هي التي تدعوه لتخليد هذا الالتقاطة .
أغرب ما في حكاية يوبي أنه لم يدرس الرسم في أي مكان وقد تعلم كل ذلك وطور موهبته في هذا الكوخ الذي كان يعود لوالديه ، هذا الكوخ الذي يتحدث عنه بعشق وبعاطفة كبيرة وهو يتذكر حين قبض عليه الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية واقتتادوه معهم الى معسكراتهم لكنه استطاع أن يهرب منهم ، وبعد معاناة وصل الى قريته واختبأ في نفس الكوخ بضع سنوات ليكون بعيداً عن الأنظار حتى انتهت الحرب ، اختبأ هناك وبدأ يطور موهبته ويرسم كل ما موجود حوله ولم يستثن من ذلك حتى السندويشات التي تجلبها له أمه . بعد ذلك بسنوات حين تطورت موهبته وبدأ أهل القرية يحبون أعماله أخذ يقايض لوحاته معهم حيث كان يستبدل كل لوحة بسمكتي بالينغ وهو مليء بالسعادة . والآن يتسابق الناس لرؤية أعماله وعالمه الجميل والبريء والمميز والأهم من ذلك موهبته الفذة التي وضعته في مصاف الرسامين العباقرة.
حين يتحول صياد سمك الى رسام مشهور
[post-views]
نشر في: 5 يونيو, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...