TOP

جريدة المدى > غير مصنف > ثلاثون موتاً ومطر واحد

ثلاثون موتاً ومطر واحد

نشر في: 30 ديسمبر, 2009: 04:13 م

قاسم حداد  1أعرف صديقا، كلما هطل مطر فـي الأرض، جـاء يدق بقبضتـه جدار غرفتـي صارخـا: " أخرج، لقد جـاء المطر وعلينا أن نقرأ أنشودة السيـاب ". فأخرج معه، دائما كنت أخرج، ليأخذنـي بسيارته ونقف على سـاحل البحـر والمطر يغسل كل شيء،
 يخـرج ديوان "أنشودة المطر " ويطلب مني أن أقرأ، فيما هو يحـتـقن. هكذا كل شتاء. صديق مثل هذا، يقرأ المطر بدموع السياب، لن يغفر لي سهوا ولا غفلة عن الشعر، معبرا عن إعجابه الأزلي ببدر، و متوغلا معي فـي تحـولات الفصول منذ الدرس الأول. ذلك الدرس الذي صاغ اتصال جـيلنا بالشعر بوصفه مطر الحيـاة على يبـاس الأرض. لكي يوشك الارتباط الخرافـي بين السيـاب والمطر أن يصبـح أحـد معالم الثـقافة العربية المعاصرة. ليـس لأن " أنشودة المطر " خصوصا هي واحـدة من أهم التجـارب الشعرية العربيـة، المؤسسة فحـسب، ولكن لأن الهيـام الوجـودي بالمطر لدى السيـاب يشكل المفارقة الحيـاتية التي صاغت تجـربـة السيـاب الرؤيوية. فهو الشاعر العربـي الذي مات لفرط المرض والعوز بـالمعنى المادي للكلمة، مات وهو يصوغ شعرا فتح، لأكثر من جـيل،الأفق للشعر العربـي برحـابة نهر لا ينضب. وهنا تكمن طاقة الرؤيا التي سيصدر عنها السياب ذاهبا نحـو قدره المأساوي. ذهب، غير محسود على الموت 2 " أتعرفين أي حزن يبعث المطر.. " ويطلق صديقي تنهيدة ادخـرها طوال الصيف، لكـي يفصح عنها تحت مطر السياب. أتساءل أحيانا، لفرط الحرائق التـي يلهبني بها صديق مثل هذا، ما إذا كان بمقدور الإنسان أن يحمل هذا القدر من الألم، ويكون مستعدا لأن يتطوع باستـعادتها كمن يستحـضر أحلامه المغدورة. لكن السيـاب كـان يذهب إلى أبعد مما يتعثـر به صديقي بـين مطر و آخـر. لقد كـان يختـزل الحـزن الإنساني كله في كـلمات. وكـان علينا أن ننتظر سنوات لنحـيط بتـجـربة السيـاب صـاعدا بعذابـه الجـسدي والروحـي وهو يجـابه الواقع. علينـا التـخـبط فـي محـتملين أمام تجربة السياب التي لا تزال متاحـة للدرس و التأمل كـأنها تحدث الآن محـتملان كـان السيـاب يقترحهما على مستـقبلنا الشعري العربـي: الخـضوع لوهم الواقع بإعتباره التفسير الوحيد للشعر، وبالتالـي الامتثـال لكـل ما تطرحه علينا تنظيرات النقد الأدبي الذي لم يكن يـرى إلى الأدب إلا انعكاسا للحدث العام. وهذا الاحـتـمال هو لأبرز والأكـثـر شيـوعا حيث يتـعرض السيـاب لآلتـه الجـهنميـة، ويصبح وردة الضحـايا لتـلك المرحلة. الاحتمال الآخر، هو الإيمان بطاقة المخـيلة بوصفها جـوهرة المراصد التـي تـأخـذ الشاعر والشعر والقارئ نـحـو أفق يصدر عن الأعماق، حيث لا نكون صادقين حقا إلا هناك. وهو احتمال اقترحتـه (من بين تجـارب شعرية نـادرة) تجـربة السيـاب فـي الجـانب المكبـوت فيـها والمسكوت عنه نقديا أكثـر الأوقـات. فمعظم النقد الذي احـتـفى بالسيـاب انحـاز لشائـع الإحـتمال الأول، لكونه يلبي متطلبـات تلك اللحظة. لكن مايبـقى من تجـربة السيـاب الرؤيـويـة هو ما سوف يتصل دوما بـالإحتمال الآخر، الذي تتأكد لنا الآن قدرته على سبر الروح واكتشاف الجسد وتحرير الجمال على الجانبـين، حيث يكون الشعر هو الحلم بإعتباره كشف الواقع وفضيحـته ومجـابهة الحياة فيـه. 3 الصديق يطرق جدار الغرفة صارخـا بـي، كمن ينـهر جرحـا متـماثلا للنوم: "أخـرج. المطر في الخـارج، تعال لنقرأ السيـاب تحت سقفه الأثير، المطر". هكذا فـي كل مطر، يترك كل مشاغله ويأتـي لكـي يسمع الشعر. قلت لصديقي ذا ليلة: "هل تعرف أن السيـاب مات بعيدا عن بيته وأهله ووطنه؟ ". فـاستنفر، كمن يريد أن يغفل عن الموت: (، لا تصدق، إن الشاعر لا يموت ". وصرت أتيقن بخـلود الشاعر كلما أعدت قراءة السياب، وأنحـاز لعذابه ومعاناته ضد واقع كان يحـدق به ويستهدف مصادرتـه بشتى الأشكال. ففي مثل هذه المجـابهة ضرب من اخـتبـار طاقة الشعـر على اخـتـراق الحـصـارات كلها، مـبـتكـرا الوقت والمكان. ويـومـا بعـد يوم تعلمت من السيـاب، فـي أجمل شعره، أن الشعر هو ماتكتبه وليس ما يكتبك. بمعنى أن الشعر هو مايصدر عن ذاتك (+ العالم) وليس ما يصدر عن العالم (+ ذاتك). فعنـدما أتمعن فـي تجـربـة السيـاب أشعر بـأن بؤرة عذاباته الروحـيـة تكمن فـي صراعه المأساوي بين مـا يحـب (ويحلم) أن يكئـبـه، وبـين مـا يسعى (الواقع) إلـى فرضه لكي يقوله عنه، وهذا مـا أوقـع السيـاب (كـإنسان) فـي الملابسات التـي جعلته ضحـيـة المهانات والعذاب فـي حيـاته. ففيما كان يكتـشف تفجـرات الشعر من جـهة، وينغمس متورطا فـي تفجـرات الروح والجسد من جهة أخـرى، كان الشاعر فيـه يبرأ من الحيـاة متطهرا بالتجـربـة. و قـد أتاح له كل ذلك أن يعرف كـيف تضيـع الجموع فـي تيـه الوهم، وكيف يضرب الجفاف روح الإنسان شوقا إلـى أنشودة المطر، ويعرف " كيـف يشعر الوحيد فيـه بالضيـاع ". و ها نحـن نتـأكد، يوما بعد يوم، كم كـان بدر شاكر السيـاب وحـيدا. وكأننا لسنا وحدنا فـي هذه الوحدة. 4 " أرسل إليـك رفقة هذه الرسالة قصيدة لي بعنوان " أنشودة المطر" وأتمنى أن تنال رضاك وأن تكون صالحـة

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

"إعادة العرض": لوحات فنية ترصد مأساة العراق

اعتقال صاحب منزل اعتدى على موظف تعداد سكاني في الديوانية

البرلمان يستأنف جلساته الاسبوع الحالي بعيداً عن التشريعات الجدلية 

مقالات ذات صلة

البرلمان يستأنف جلساته الاسبوع الحالي بعيداً عن التشريعات الجدلية 
غير مصنف

البرلمان يستأنف جلساته الاسبوع الحالي بعيداً عن التشريعات الجدلية 

بغداد/ المدى كشف نائب رئيس الأقاليم والمحافظات البرلمانية جواد اليساري، مساء اليوم السبت، عن عودة عقد جلسات مجلس النواب خلال الأسبوع الحالي، فيما أكد عدم وجود أي اتفاق على تمرير القوانين الجدلية. وكان البرلمان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram