نزل من الطائرة وهو يفكر: كيف يمكن أن استعيد ما غادرته قبل ثلاثين عاماً؟ كل شيء تغير، بما في ذلك أنا. صرت كهلاً، ومزاياي غابت، أحمل في جسدي آثار عمليات جراحية، وشعري أبيض تماماً. فماذا سأفعل في سنواتي القادمة؟ هل عليّ أن أرجع إلى الطائرة لتقلني من جدي
نزل من الطائرة وهو يفكر: كيف يمكن أن استعيد ما غادرته قبل ثلاثين عاماً؟ كل شيء تغير، بما في ذلك أنا. صرت كهلاً، ومزاياي غابت، أحمل في جسدي آثار عمليات جراحية، وشعري أبيض تماماً. فماذا سأفعل في سنواتي القادمة؟ هل عليّ أن أرجع إلى الطائرة لتقلني من جديد إلى عمان؟ أقلها سأكون قريباً من بغداد، كما عشت خلال السنوات العشر الأخيرة...
مثل هذه الكلمات كانت تزدحم في رأس عبد الستار ناصر لحظة وصوله إلى كندا. أكاد أراه بين جموع المسافرين، يتلفت ببطء، بينما تحاول زوجته القاصة والروائية هدية حسين، أن تلحق بالحقائب. هو غير مكترث بالحقائب. ربما كان يبحث عن المكان الخاص بالمدخنين، فالرحلة من العاصمة الأردنية إلى حيث هو طويلة جداً، والتدخين خلالها ممنوع.
في الأعوام القليلة التي أمضاها في كندا قلّ نشاطه الكتابي بشكل كبير، وهو الكاتب الأغزر. كان ناصر، قبل كندا، يكتب كثيراً وينشر كثيراً. علاقته بالقراءة والكتابة وثيقة للغاية، فهو لا يجد نفسه إلا قارئاً أو كاتباً. تمنحني سنوات الرفقة الطويلة معه لكي أصدر مثل هذا الحكم، وهو حكم عايشته بنفسي، سواء في منزله، أو في المقهى، أو اتحاد الأدباء، في بغداد وعمان تحديداً.
كلماتي الحزينة لا تريد أن تسقط في فخ استذكار قصص صغيرة كان هو بطلها وكنت أنا شاهدها، فذلك متروك للشهود، وهم كثر، وسيحاول بعضهم أن يطلّ بذاكرته على مثل تلك القصص، ولكنني أردت أن أرسم لوحة حزينة، لكاتب يوصف بأنه لم يكن مبالياً، لنقل بعبارة أخرى: كاتب عرف عنه ولعه بالنساء والقمار والخمر أكثر من أي شيء آخر.
حياة عبد الستار ناصر حزينة هي الأخرى، خاصة لمن يعرفها، ولمن لا يعرفها فما عليه سوى العودة لرواياته: "من أي بلاد أتيت"، "الطاطران"، وغيرهما، ففي تلك الأعمال نفحات من سيرته المليئة بالوجع على خلاف ما هو شائع عنه.
والأحزان سيرة عراقية حصرية. لعبت السياسة لعبها بأجيال من العراقيين، فسجنت وشتّت وقتلت وهجّرت وظلمت وأبكت ويتّمت ورمّلت. لا تكاد تصادف عراقياً، منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، لم يكابد في حياته، حتى ليبدو أنه المستهدف الوحيد في هذه الحياة. هكذا تتناسل العقد الاجتماعية في الشخصية الوطنية، ومن يشذّ من ذلك محسود. وكان عبد الستار ناصر محسوداً.
كان يعتقد أنه الأديب الأبرز، والأكثر أناقة، والأشد حرصاً ومواظبة، وكان يعتقد أنه كاتب مقروء، وموهوب، ولا يخفي عشقه لكثير من الأمور التي يعتبرها غيره موبقات. كل ذلك هو الذي صنع اسم وشخصية هذا الروائي الذي يردد بشجن وجرأة أنه لن يصل إلى مصاف العالمية بوجود ستيفان تزفايج وديستوفسكي وايزابيل الليندي.
وبعيداً عن ذلك كله، أجدني غير قادر على تناسي طاقته الروحية الشخصية في لم الأصدقاء من حوله. هو كائن اجتماعي. لا يستطيع العيش بلا أصدقاء. لا تشعر وأنت تجالس عبد الستار ناصر بأنه ابن جيل الستينات الذي نعرف، بل هو صديقك الحميم فقط. هو يختصر السنوات الطويلة التي تفصلك عنه. يعترف أمامك بأخطائه وخطاياه مثل طفل. ثم يأتمنك على أسراره كما لو كنت الصديق الوحيد له. عشت قريباً منه سنوات طويلة حتمتها إقامة مؤقتة في العاصمة الأردنية عمان لكلينا. وفي هذه السنوات عرفت الكثير جداً عن شخصيته، وخصوصياته. تلك التي لا أجد بداً من التأكيد من أنها كانت شديدة التنوع والحساسية والغرابة والسحر. لقد بهرني. نعم. بهرني كثيراً. وكنت، كلما اقتربت منه أكثر، أشعر بعشق من نوع خاص لهذا الأديب الاستثنائي. وكان يحنو عليّ صديقاً، ولم اشعر، ولو مرة واحدة طوال تلك السنوات، بأن ناصر الذي يكتب في عشرات المجلات والصحف، ويكتب عنه العشرات من الأدباء، بأنه غير ذاك الفتى شديد الأناقة، كثير الحب، والصديق الأقرب.
يموت الأدباء، من أصدقائنا، ونحزن كثيراً لفقدانهم، ولكنني اشعر، بحق وصدق، بأن خسارتي لعبد الستار ناصر أكبر من كل أحزاني.
كاتب عراقي مقيم في سيدني