اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > مسرح > نقد مسرحي:حين يكون المخرج سارداً جمالياً..مسرحية "الحُر".. تراجيديا البطل الاستثنائي

نقد مسرحي:حين يكون المخرج سارداً جمالياً..مسرحية "الحُر".. تراجيديا البطل الاستثنائي

نشر في: 9 يونيو, 2015: 12:01 ص

 لم تكن لحظة الصمت تلك - التي انطلق منها عرض مسرحية ( الحر.. طقوس الدم والشهادة ) للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد , والذي اعده واخرجه ( حميد صابر ) لكلية الفنون الجميلة - جامعة واسط العراقية - بل كانت لحظة السرد الجمالي المنضوية مع لحظات فكر وخبرة

 لم تكن لحظة الصمت تلك - التي انطلق منها عرض مسرحية ( الحر.. طقوس الدم والشهادة ) للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد , والذي اعده واخرجه ( حميد صابر ) لكلية الفنون الجميلة - جامعة واسط العراقية - بل كانت لحظة السرد الجمالي المنضوية مع لحظات فكر وخبرة جمالية ومسرحية طويلة أقلقت مخرج هذا العرض المتقد ( نصا واخراجا واداء والوانا صورية ) .. 

 
لم تكن لحظة الصمت ابدا .. بل كانت تلك الكتلة الجسدية الجماعية لمجموعة العرض التي تلبست جسدا واحدا وهو ( جسد الحسين ) وهي تفتتح العرض صمتا متفجرا وحاملا لجميع الاسئلة الجاثمة على صدر التاريخ - المغيب منه والمعلن - وكأن حال لسان هذه الكتلة الجسدية الجماعية يقول : لماذا ؟ ... هذه الـ ( لماذا ؟ ) التي صرعت ( شمر ) هذا العرض , كما صرعت و أقلقت جميع ( شمامرة ) التاريخ و الى اللحظة . 
لم تكن لحظة الصمت مطلقا - برغم ملفوظ المفتتح الحواري للعرض : " انها لحظة الصمت" - بل كانت لحظة انطلاقة الدوي الفكري والايماني التي جثمت على عقل و روح بطل العرض الاستثنائي الاول ( الحر الرياحي ) ليحدد موقفه : بين ان يكون مع الحسين ام عليه ؟ لحظة موقف درامي للبطل النبيل لا نشهده دائما في المسرح الا في العروض المسرحية المركبة صاحبة السرد الجمالي الخلاق كعرضنا هذا . 
حميد صابر: المخرج / الخبرة , الذي شهدت له خشبات المسارح العراقية سنين طوال , وهو ايضا الخبير الجمالي لهذا النص , فرافقت هذه الخبرة وصاحبتها كل التحولات والازمات الفردانية والعمومية , وسنوات القهر والاستلاب الذاتي والوطني والانتمائي للمسرح وللبلاد الأصل , منبع الحب الاول والملاذ الآمن , لتكتمل هذه الخبرة الجمالية قابضة على النص (الحر) الذي تسلل الى ثنايا الجسد المغترب وثنايا الليالي المضنية بانثيالاتها وبرؤى مخرجها المنتمي الى اصلها دائما .. فكان كما ( الحر ) الذي عليه ان يختار: بين ان يكون مع الموت ام مع الحياة ؟ .. فاختار الحياة لانها (العراق) , مهده وملاذه الابدي . 
بعد انهيار كتلة الصمت الجسدية مباشرة نلج عوالم العرض الملبدة بسينوغرافيا الدم وليس سواه .. ونغمات صوتية شجية واهات جسدية ترسم لنا في الفضاء الصراع الذاتي لشخصية الحر بن يزيد الرياحي الذي تحلق فوقه جرار الماء الفارغة وتحيطه ثلاثة متوازيات لنهر الدم طيلة زمن العرض . تتوالى الينا فرضية المكان والزمان بعمقها الرمزي التأويلي , ليجابه الحر هاجسه الشخصية بوصفها الفرضية البيضاء زيا والتي اقترحتها مدونة النص قبلا واستجابت لها مدونة العرض لاحقا , ليكون هذا الهاجس الدالة الكبيرة لدوال اكبر ملؤها الحقيقة وطابعها الكذب .. وبرغم امتلاك الحر عنان الاف الأسنّة الا ان المقابض ليست في يده التي يملكها , بل هيهات ان يملكها اللحظة , لان عليه ان يختار .. ولان ملاءات الكذب تحوطه شفاها مع قرب زمن المعركة مع الحسين (ع) , فكان نزيف الليل لما يزل ينخر و يحفر عقل وروح وقلب الحر الرياحي . 
تتوزع الكتل الجسدية ساردة لنا الالم دراميا وهي تحاول اخراجيا ان تعادل جسد الحر وآلامه.. الثابت والمتحول كان حاضرا في تشكيل كل هذا السرد الادائي والصوتي واللوني , ولان الدرس الاكاديمي كان حاضرا منذ لحظة بدء العرض وتحليق الممثلين حول استاذهم فوق خشبة المسرح وقبيل بدء العرض ودخول الجمهور ليستمر هذا الدرس مسايرا لخطوة توزيع الشخصيات وحضور الموهبة الفنية الواعدة لا سيما لدى عدد من الممثلين مثل : ( مرتضى ساجد بدور الحر , و فؤاد سالم العبودي بدور الشمر , ورضا ابو ذر بدور الهاجس , و منير محمد بدور الشيخ , و اجود منتظر بدور ابو حفص , وكرار سليم بدور زياد ) الى جانب اخرين تميزوا في موهبتهم الابداعية التي نجح المخرج (الاستاذ) كثيرا في صقلها وتربيتها كما يملي عليه الضمير الاكاديمي والتربوي بامتياز . 
لنصل الى ذروة التساؤل الاولى لاصحاب الحر : نحن مع الحسين ام عليه ؟ محاولا (الحر) البحث عن الاجابات او ربما البحث عن الاسئلة الدامغة للاجابات .. مع محاولات حركية لتشكيلات جسدية مسايرة لكل هذا الالم الدرامي الغارق في الحسم , والغارق في الانتماء والسمو الروحي , لان الخصم الذي ابتلي به الحر اليوم يفوق كل التصورات واكبر من جميع التوقعات . لنصل الى مشهد الحلم الذي افترضه العرض جاعلا من مجموع الناس والعباءات السود هي العلامات المشكلة للموقف وللحل الاخير .. ليختار الحر اخيرا ان يكون مع الحسين لا عليه .. لانه لن يكون سلما , ولانه ايضا - اي الحر - لن يقطع راس المعمدان مرة اخرى ولن يقتل المسيح .. ولان هامة هذه الشمس يا حسين هي أدنى الى سيفي من راسك المقدس .. وفجأة .. وباختزال زمني ومكاني وصوري مكثف , بعد مقتل الحسين , وبعد انقضاء فاجعة الطف مباشرة , يظهر لنا ( الشمر ) البطل الثاني في العرض , بل يكاد يكون البطل الاول هنا في نص عبد الواحد و عرض صابر .. 
لا نعتقد ان ثنائية ( الجسد والعقل ) مسيطرة على الثقافة الغربية وحدها , بحسب اشارة الناقدة الالمانية (ايريكا فيشر- ليشته) في كتابها (جماليات الاداء - نظرية في علم جمال العرض) وهي تعني مجال فنون العرض والاداء , بل نجد هذه الثنائية التي بثها عرض (الحر) بشكل متوازٍ ومساير لتحولات الاحداث والصور المسرودة من خلال (عقلي : الحر و الشمر ) من جهة وجسديهما المنضويين مع الجسد الكتلوي جماعيا بصورته المتحركة دائما والثابتة احيانا.. ليحوي هذه الثنائية المرتبطة قبلا واثناء باثات العرض مع عقل المتفرج بوصفه متحركا ازاء الحدث السابق التاريخي , وجسده الثابت ازاء ذات الحدث التاريخي المسرود الآن .. لنصل الى القول : ان الشمر الذي هيمن حضوره كبطل منافس في العرض كان يتحرك جسديا بعقله .. كان متسائلا كبيرا وحائرا شاكا قلقا ومتوجسا من نذالة فعلته الاثمة .. وكأن حال لسانه - الذي لم يقل هنا - يقول كما قال الملك كلوديوس في مسرحية هاملت شكسبير : " ما أنتن اثمي .. لقد صعدت ريحه الى السماء .. " هي معاناة تناصية واضحة لكبر الاثم المدنس المتناقض مع كل ما هو مقدس .. كان الشمر هنا في عرض ( حميد صابر ) كتلة اثمة ونادمة معجونة بالهواجس والكوابيس والتي تتناص مرة اخرى مع الشخصية الشكسبيرية الثانية (مكبث) الضاجة بالهوس والقلق واحلام اليقظة .. فالخنجر الذي يراه مكبث موازيا للمقتولين جسديا الذين يظهرون للشمر بوصفهم ضحاياه .. انها ذات الاشباح والعيون والاصوات التي طاردت مكبث , حضرت بمنعطف درامي لتطارد الشمر , بل انها ستطارد جميع شمامرة العصر الحديث ممن يقفون ضد الحياة وضد عدالة السماء المنتظرة . 
الشمر الان لايمتلك سوى هذا التذكر الضاج بالالم , وما هذه الا مرتبة درامية نبيلة اوجدها النص ووسع مداها العرض وهي مرتبة مفترضة كونها مجافية للحقيقة الاصل , الا ان السرد الجمالي هنا اثراها قيمة ومعنى لتكون الشخصية الاكثر استفحالا والاكثر حضورا واداء , وما زاد تفعيل هذه الفرضية العرضية هو الموهبة الادائية المائزة التي بثها لنا الممثل المؤدي (فؤاد سالم العبودي) برغم شططه الحركي والمبالغ فيه لحظات قصيرة لانقياده الى لذة ادائية قادته اليها حضوره الادائي لكنه في الاخير كان ساردا ادائيا جماليا ثانيا الى جانب المخرج السارد الجمالي الاول في هذا العرض . 
وفي مشهد الشيخ الحاضرة فيه ملحقة (الطاسات) دلالة الماء والعطش , مقابل الفضاء المركب اثما الذي هيمن على الشمر , جاء المشهد بتوقع الشمر فقط ليكون منقذا له او الملجأ الاخير الذي سيرتكن اليه , الا ان الرفض الجماعي جسدا وعقلا وحركة ادائيا جاء خنجرا اخر يطعن الشمر وفعلته في قتل الحسين , فلم يكن الشيخ الذي يسأل معروفا في نهاية المشهد بل كان الشيخ الممتلئ بالماء الذي يبيع الحكمة والعدالة السماوية الذي ننتظرها جميعا . 
ختاما .. وصلتنا رسالة العرض الجمالية ومفادها هو : انه وعلى مر التاريخ والى المستقبل ابدا , سيبقى ( القاتل خائفا , لان القتيل دائما يلاحقه ) .. هكذا شمّر العرض جماليا عن ساعديه : عقلا اخراجيا .. وجسدا رؤيويا مفكرا ... فالقاتل دائما يخاف الموت لانه يخاف الحياة ولايفهم كنهها .. اما (القتيل) فهو دائما لا يخاف الموت لانه يفقه الحياة وسرها, ويعرف ان موته - دائما - انتصار , ودائما يكون موته لاجل حياة اخرى جديدة منتظرة تسعى لها الانسانية الحقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته
مسرح

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته

فاتن حسين ناجي بين المسرح الوطني العراقي ومهرجان الهيئة العربية للمسرح في تونس ومسرح القاهرة التجريبي يجوب معاً مثال غازي مؤلفاً وعماد محمد مخرجاً ليقدموا صورة للحروب وماتضمره من تضادات وكايوسية تخلق أنساق الفوضوية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram