1-3
النافذة التي نطل منها على العالم الأكثر إبداعاً عند العديد من كتاب وكاتبات العالم تتسع أمامنا مع نشر هذا الكتاب الضخم (رسائل الزمن غير الضائع، جمع وتحرير : فايت هاينيشين، دار دايمينت)، والذي يحتوي على مختارات نموذجية من الرسائل التي كتبها الأدباء والأديبات، الفنانون والفنانات، لحبيباتهم، أصدقائهم، ذويهم، وأساتذتهم. وبالذات الآن، في هذه السنوات، حيث اصبح فن المراسلة مهملاً، ولم يعد له ذلك الحضور المؤثر، الذي امتلكه أيام زمان، أو من الأفضل القول بعد تغير المشهد من بساطته ومباشرته إلى طغيان الفاكس والبريد الإلكتروني والانترنيت، عندما ينفتح أمامنا صندوق الذخيرة هذا، الذي لا يختلف عن صندوق للعجائب، نتعرف فيه على أنفسنا، عندما نقرأ فيه بخبطة واحدة، كل تلك الكلمات البريئة والمباشرة، وبكل ما فيها من حميمية ووجد: أرق الحب الذي اعترف به الروائي المكسيكي خوان رولفو لحبيبته؛ فرح الحب الذي اعترف به مايكافوسكي لحبيبته؛ البساطة التي ملأت سطور رسائل لوركا؛ التفاصيل الصغيرة التي باح بها فرناندو بيسوا لحبيبته؛ قوة الفاقة عند الفيلسوف كارل ماركس والرسام فان كوخ؛ المتاهات الفلسفية للفيلسوف الألماني شوبنهاور التي يشترك فيها مع زميله في المواطنة غوته؛ رحلات البحث الأدبية بين الأميركي الشمالي هنري جيمس وزميله في الرحلة ر. ل. ستيفينسون؛ مغامرات الحب المليئة بالوجد للفرنسية سيمون دوبوفوار مع عشيقها الكاتب الأميركي الشمالي نيلسون آلغرين؛ أو التخلي عن الكتابة ووداع العالم للصبي الفرنسي آرثر رامبو الذي يجهل أنه كان قد كتب حينها أعمالاً عظيمة.
أبداً لم يعتقد أي كاتب من هؤلاء بأن التأثيرات والانطباعات المصاغة بسبب عددها الضئيل – ربما – وكلماتها القليلة ستُنشر ذات يوم، وستصبح موضع دراسة، وأنها لن تثير فضول الدارس فقط، إنما ستفتح أمامه آفاق الغوص عميقاً في حياة الكاتب أو الكاتبة. نعم لم يفكر أي من هؤلاء، وفي غمرة حماسته الكتابية، بأن ما سيكتبه سيخدم العالم عن طريق ضمه نفسه للعالم الإبداعي الذي بدأ كل كاتب أو كاتبة بتشكيله (خاصة في بداية سنوات التشكل الأدبية)، والذي نتعرف عليه الآن عن طريق كتاب ضخم يجمع أهم الرسائل لتلك الكينونات المتشكلة، والتي ما زالت الأفكار التي قالتها تحت الحماس الشبابي "في البحث عن الزمن..." غير الضائع، والذي لا يستحي من إطلاق أية فكرة، مهما كانت قيمتها، لأن المواهب في بداية انطلاقها لا تفكر بغير انعتاق نفسها، التنفيس عن مخزونها والتعبير عمّا يضغط عليها، غير معنية بردود فعل الآخر وتقييمه لأفعالها.
"بإمكاني أن أضع قلبي بين يديك، دون أن يتمرد.......تعلمت أن أقول أسمك بينما أنام"، كتب خوان رولفو لحبيبته كلارا آباريثيو، في تشرين الاول 1944. بينما اعتاد الشاعر الروسي مايكوفسكي، صاحب "غيمة في بنطلون"، أن يرسل برقيات لحبيبته "ليليا" (أخت إلزا زوجة أراغون)، "أمس، اليوم، غداً، وبعد مليون...مليون..مليون سنة أحبك حتى طقطقة عظامك". غارقاً في الحب، كان أيضاً الأرجنتيني لويس بورخيس وليس غيره، الذي لم يستطع تحمل عواطفه الصاخبة، يعترف لصديقه ياكوب سوريدا: "هي لديها 17 سنة من العمر، اسمها كونسيبسيون غريرّو. لكن في النهاية، ما العمل؟ دون عمل أدبي كبير معروف يشعر الواحد بكونه شخصاً غير معروف؟ أستسلم وأقتنع بالقول بأني وقعت بالحب، تماماً، بصورة حمقاء". واقعاً تحت الهاجس ذاته، صريعاً للمعاناة، كان أيضاً مايكوفسكي، عندما تركته "ليليا" وذهبت مع الشاعر الفرنسي بول إيلوار، إذ يكتب لصديقه "الرفيق" كوستروف: "الرفيق كوستروف.. أنني جريح للأبد.. لن أشفى من هذا الحب ...أنني خائر القوى، بالكاد أستطيع جرجرة خطاي".
يتبع