الحكومات تعبث بمصائر مواطنيها. ثم تكون مضطرة للتصدي لهم. هذا ما خلصنا إليه خلال متابعتنا للتظاهرات التي خرجت في ابي الخصيب بالبصرة احتجاجا على قطع الكهرباء عن بعض القرى. القرى التي لم تعد قرى كما كانت قبل عشرين سنة إنما تحولت إلى عشوائيات سكنية، تشبه الخرائب بفعل السياسة الخاطئة لما يسمى بحكومة البصرة.
اكتملت دورة الظلم، ودارت الرحى التي ظلت ساكنة، وخرج الفقراء المسالمون عن صمتهم. إذ لم يكن أهل قرى أبي الخصيب قبل هذا اليوم بحاجة الى استهلاك الكميات الهائلة من الكهرباء ومثلها من الماء والغاز والمجاري. كانوا قانعين بما لديهم من كهرباء قبل خمس عشرة سنة لا أكثر، لكن تحويل آلاف الدونمات من أراضيهم الزراعية الى مساكن وقطع اراضٍ سكنية ومحال تجارية ودخول مئات الآلاف من الاسر النازحة من شمالي المدينة والمحافظات الشمالية أدى الى الفوضى العارمة هذه، والتي انتجت زيادة الطلب على الكهرباء والماء والغاز وسواها. فضلا عن التغيير الديموغرافي في التركيبة السكانية.
المساحات الزراعية الواسعة وغابة النخل والخضار والفاكهة وآلاف الانهار كانت قد جعلت من الجو هنا معقولا إلى حد ما، على الرغم من ارتفاع درجات الحرارة بشكل عام. إذ أن حرارة الشمس تجد الصعوبة البالغة في الوصول الى المساكن بفعل تشابك النخل والاشجار ثم برودتها بسبب الماء المحيط بالمنازل والبساتين من كل الجهات. كما ان السكن كان متباعداً بين بيت وآخر ذلك لأن المواطن فيها لا يجد ضيقا في المساحة لديه، وقد نجد أسرة واحدة تشغل بيتاً صغيرا في بستان مساحته أكثر من 10 دونمات، وهناك من يشغل ضعف المساحة هذه بمنزل واحد او منزلين. ولم تكن في المنطقة كلها اكوام النفايات هذه، كذلك كانت الانهار للمد والجزر وسير القوارب، فهي نظيفة، خالية من الاطارات القديمة وقناني الماء الفارغة واكياس النايلون. ليس كما هو حال القضاء اليوم.
يقول عضو في مجلس محافظة البصرة بأن بيع الاراضي الزراعية في ابي الخصيب وتحويلها الى أراضٍ سكنية ومحال تجارية انقذ الحكومة المحلية من نقمة المطالبين بإيجاد سكن لهم، فقد سهّل المجلس عمليات انتزاع الأراضي هذه من مالكيها عبر سياسة زراعية فاشلة متعمدة، الامر الذي اضطر معه مئات الملاكين إلى بيع بساتينهم على وفق خطة بشعة اشتركت فيها معظم الدوائر المعنية وعلى رأسها الحكومة المحلية، فقد تسابق الكثير من اعضائها الى شراء مئات الدونمات من البساتين قبل غيرهم. وهكذا وافق المجلس (الموقر) على ادخال القضاء ذي الطبيعة الزراعية-المائية التاريخية ضمن حدود التخطيط العمراني للمدينة. وجعل من آخر قطعة خضراء، جميلة مقصدا للباحثين علن السكن الرخيص، وبذلك فالمجلس كمن يعالج مريض السل بالسرطان.
حتى وإن تحسنت الكهرباء ذات يوم، فسيأتي اليوم الذي يخرج فيه سكان القضاء متظاهرين، محتجين على سوء الخدمات فقضية مثل المجاري ستكون واحدة من أخطر القضايا التي ستواجه حكومة البصرة، إذ أن الانهار والترع التي تحولت إلى قنوات للصرف الصحي ستمتلئ ذات يوم وتفيض بعد أن تبلغ حد تسريبها الطبيعي، وتتشبع بالماء القذر، وستتوقف محطات الاسالة التي ما زالت تعتمد على ماء الانهار هذه، وستكون المجمعات السكانية العشوائية الهائلة قابلة للانفجار في اية لحظة بسبب من ازدحامها وتفاقم عدد السكان وعدم جود شبكة طرق بلدية نظامية. فلتستبشر (خيرا) حكومة البصرة بالأزمات القادمة. ولتتوقع المزيد من الحرائق والاصطدامات، فقد جنت براقش على نفسها. اللهم إنا بلغنا. اللهم اشهد.